تعيش المناطق الشيعية في الجنوب والضاحية والبقاع، مع بداية كل شهر محرم أو قبل، أيام فورة عالية من الضجيج مصحوبة بنشاط عالٍ جدا من مجموعات شبابية حزبية طبعا، تتحرك بدافع حزبي أولاً، وبدافع الارتباط العاطفي مع ذكرى استشهاد الامام الحسين ثانياً... لكن ماذا يبقى من معنى لهذه الذكرى، بعد انتهاء المراسم الشكلية.
 

تبدأ التحضيرات العاشورائية كما هو معروف برفع اللافتات والأعلام السوداء وتغطية ما تيسّر من جدران القرى والمدن بلوحات ورسوم من وحي المناسبة بالخصوص، منها القريبة من المراكز والحسينيات التي فيها سوف تتلى السيرة الحسينية ومجالس العزاء واللطم والندب، يضاف إليها طبعا أعداد كبيرة من السيارات والشاحنات الصغيرة التي تحمل على ظهرها أحدث مكبرات الصوت لتجوب الشوارع وتسير أمام المسيرات الليلية.

عشرة أيام حافلة بالكثير الكثير من الصخب والضجيج والصراخ والعويل، على مدار الساعة تخترق خلالها أصوات الندبيات المرتفعة وألحان قراء المجالس كل مكان في البيوت والطرقات والساحات وحتى المدارس وداخل الصفوف، وصولا الى غرف النوم وغيرها أيضا. حتى إذا ما جاء اليوم الحادي عشر من المحرم يعود الهدوء والسكينة الى المناطق كافة لتبدو كأنها خارجة من عاصفة هوجاء أو إعصار ضربها طيلة هذه المدة.

إقرأ أيضًا: الحُسين (ع)، بين معوض والرويس

تختفي مع انتهاء اليوم العاشر من محرم كل تلك المظاهر الصوتية، ويذهب قراء العزاء الى بيوتهم سالمين غانمين بالأجر كما يدّعون، وبالأجرة التي تصل الى آلاف الدولارات كما نعرف، ولا يغيب عن بالنا استمرار إقامة المجالس العاشورائية حتى ذكرى الأربعين، لكن داخل البيوت الأكثر تفجعًا، خصوصاص عند النسوة بوصفهن “الأكثر رقة وحنيّة”، هذا بالإضافة الى المسيرة المركزية لحزب الله في مدينة النبطية في اليوم الثالث عشر.

إنّ كل ما تقدم لا يعدو أكثر من توصيف للحالة التي تمر بها المناطق الشيعية، بعدما أضحت هذه الحالة أقرب الى روتين سنوي نتعايش معه ونستسيغه ونتفاعل به وله، بدون تسجيل أي اعتراض كونه أضحى جزءا من هويتنا المذهبية ومظهرا من مظاهر تراثنا الذي لا يُردّ ولا يُبدّل.

إقرأ أيضًا: يزيد بن معاوية.. الممانع

يبقى أنّ الجواب على سؤال بديهي يمكن أن يطرح في هذا السياق عن النتائج المرجوّة من إقامة هذه الشّعيرة المقدّسة، وعن الثّمار التي نجنيها كمجتمع بعد الانتهاء من إحياء تلك المراسم،. خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن النهضة الحسينة المباركة واستشهاد الامام الحسين إنما كانا من أجل الاصلاح في الأمّة والمجتمع كما يشنّف آذاننا تالي السيرة الحسينية يوميًا.

يأتي الجواب الصاعقة إنّه مع انتهاء اليوم العاشر، تصمت الميكروفونات، وتخرس الأصوات، ويعم الصمت، ويعود الناس إلى حياتهم اليومية وإلى أزماتهم اليومية ومصائبهم اليومية ليهرولوا كما كل يوم صوب الزعماء والأحزاب والعصبيات والشحار والتعتير كأن شيئا لم يكن. وللإنصاف هنا لا بدّ من الاشارة الى أشياء تستمر وتبقى بعد انقضاء المراسم ولمدة طويلة قد تستمر في أغلب الأحيان الى العام التالي، وهي اللفتات و”الخراريق” السوداء في الطرق وعلى الأعمدة. فكأنّ الذي علّم من علقها لم يعلمه أن ينزعها عند انتهاء الذكرى، لتهطل عليها أمطار الشتاء كما في كل عام فتتدلى و”تتشحشط” على رؤوس وسيارات الناس فتزيد منظر البؤس الذي نحن عليه بؤسًا، وللأسف فإن هذا فقط كل ما يتبقى من مراسم عاشوراء…