واضحٌ أنّ الرئيس سعد الحريري يتأنّى في التأليف ليكون مناسباً للمعايير التي يريدها أو لا يكون. وللمرّة الأولى منذ أن كان رئيساً للحكومة التي أسقطها «حزبُ الله»، يدافع الحريري عن حليفه في 14 آذار (السابقة) الدكتور سمير جعجع وحليفه السابق في 14 آذار (السابقة) وليد جنبلاط. فهل بات الحريري وحلفاؤه أقوياء إلى حدّ عدم التراجع عن الشروط والمطالب- بمعزل عن أحقيتها- وهل تقلّص نفوذُ «حزب الله» وحلفائه إلى حدّ العجز عن المواجهة وفرض الشروط؟
 

في ظروف مماثلة، لوَّح «حزب الله» بـ7 أيار جديدة إذا لم تتمّ الاستجابة لشروطه في تأليف الحكومة، أو في مسائل أقلّ أهمية. وفي اعتقاد المتابعين أنّ «الحزب» لو كان منزعجاً فعلاً من الفراغ الرئاسي لما دام نحو عامين ونصف عام. والدليل أنّ الفراغ انتهى بصفقة متكاملة وافق عليها «الحزب»، وهي تنسجم مع مصالحه، وقضت بعودة الحريري، ومعه قوى 14 آذار إلى السلطة، مقابل قبولهم بنهج سياسي يقوم على الآتي:

- طيّ صفحة النقاش حول سلاح «حزب الله» نهائياً.

- وقف الحملات التي تستهدف مشاركة «الحزب» في الحرب في سوريا ودول أخرى.

- تجنّب أيّ انعكاس سياسي داخلي لوقائع المحاكمات في ملف الرئيس رفيق الحريري.

- الانفتاح على دمشق وفق المعايير التي ترعى العلاقات بين أيِّ دولتين عربيتين متجاورتين.

في المقابل، تُوافق قوى 8 آذار على الآتي:

- الانفتاح بين لبنان والمجموعة العربية الخليجية، بقيادة المملكة العربية السعودية، لما فيه المصلحة اللبنانية.

- احتفاظ لبنان برصيدٍ من العلاقات مع الولايات المتحدة، والتعاطي مع العقوبات التي تتّخذها ضد إيران و»حزب الله»، ولكن بالحدّ الأدنى الذي يمنع تعريض هذه العلاقات ومصلحة لبنان السياسية والاقتصادية والمالية للخطر.

وقد التزم الحريري نهجَ التسوية بدقّة، وما زال. والدليل إعلانه أخيراً في لاهاي أنه، في موقعه كرئيس للحكومة، يتعاطى «بمسؤولية» مع المعطيات المتعلقة باحتمال ثبوت دورٍ لـ»حزب الله» في اغتيال والده. وسبق أن رسّخ الحريري اقتناعه بسائر بنود التسوية، خلال أزمة تشرين الثاني 2017.

في المقابل، يقاتل «حزب الله» وحلفاؤه دفاعاً عن الحريري وما يمكن أن يوفّره من تغطية داخلية وعربية ودولية. ولذلك، ساعدوه على أن يبقى رئيساً للحكومة المقبلة، وهم لا يريدون سواه في هذا الموقع، أيّاً كانت الظروف.

فمَن أفضل من الحريري لتوفير التغطية السنّية والعربية والدولية لنهج التسوية؟ وهل هناك ضمان أفضل من أن يكون صاحب القضية في داخل السلطة، ملتزماً ضوابط المسؤولية والتسوية السياسية المعقودة، عند صدور الأحكام في لاهاي، أيّاً كانت طبيعتها ونتائجها؟

لذلك، هناك ثابت أساسي يلتزمه «حزب الله» في الأزمة الحكومية الحالية، وهي أنّ الحريري يجب أن يكون رئيس الحكومة وأن يحظى بمقدارٍ كافٍ من الدعم السنّي داخلياً.

ومن هنا الالتفافُ المثير للجدل حول الحريري، الذي يبديه الأقطاب السنّة حتى القريبون من «الحزب»، على رغم «التكتكات البسيطة» حول تمثيل النواب السُنّة من خارج «المستقبل» في الحكومة المقبلة.

إذاً، هناك توازن في المصالح السياسية يتحكّم بالمرحلة. ولكن، في العمق، المستفيد الأول من التسوية هو «حزب الله» والمحور الذي ينتمي إليه. وليس أمام الحريري اليوم سوى السير في التسوية، وإلاّ فإنه سيخرج من السلطة ويغادر اللعبة السياسية، كما كان قبل 2016، مع ما يعنيه ذلك من خسائر سياسية تراكمت عبر سنوات.

لكنّ الحريري يعرف مكانه فيتدلّل… قليلاً، من دون أن «يزيدها». وهو يستقوي بجعجع وجنبلاط لإقامة حدّ أدنى من التوازن. والأصحّ هو أنّ القوى العربية والدولية الداعمة له تشجّعه على استثمار التسوية مع «حزب الله» إلى الحدّ الأقصى، ما دامت أمراً واقعاً لا مفرّ منه، وما دام «الحزب» ليس في وارد القيام بعملية قيصرية تؤدي إلى فرض تأليف الحكومة وفقاً لشروطه.

وهذا الغطاء العربي والدولي هو الذي يحمي جعجع وجنبلاط ويمنحهما هامش المطالبة بالحصص وعدم التراجع عنها، وهو مصدر قوة لهما في هذه الفترة، ويوازيه الحجم الذي استحصل عليه الطرفان في الانتخابات النيابية الأخيرة، مسيحياً ودرزياً.

كما أنّ هناك، بين حلفاء «حزب الله»، مَن يفضّل وجود ثنائية مسيحية فيها مقدارٌ وافٍ من التوازن، لئلّا يرخي «التيار الوطني الحرّ» «دَلالَهُ» على الجميع، رافعاً شعار زعامته شبه المطلقة على المسيحيين. وهذا الوضع تستفيد منه «القوات اللبنانية».

لكنّ المصدر الأساسي لقوة الحريري وجعجع، وإلى حدّ ما جنبلاط، في هذه المرحلة، يبقى موجوداً عند «حزب الله» تحديداً. فالأساس هو أنّ «الحزب» ليس اليوم في وارد القيام بأيّ عملية قيصرية لحسم الأزمة الحكومية (7 أيار أو شبه 7 أيار).

فهو وإن يكن مستعجلاً لتشكيل حكومة توفّر له التغطية التي يريدها في مواجهة الضغوط الآتية إليه وإلى المحور الإيراني، فإنه لا يرى أنّ الأمر يستحقّ المغامرة داخلياً. واليوم، يبدو «حزب الله» أقرب إلى التواصل ومدّ الجسور مع خصومه، أكثر من أيِّ يوم مضى. وليس هناك ما يستأهل إفساد هذا الجو.

وهكذا، يتمتع الحريري وجعجع، وجنبلاط إلى حدّ ما، بمقدارٍ من القوة توفّره لهما تقاطعات المصالح خارجياً وداخلياً. ويمكنهما التعويل على أنّ ذلك سيمنحهما مقداراً مقبولاً من التوازن داخل الحكومة العتيدة. ولكن، هل هذا مضمون؟

المطلعون يقولون: «يمكن أن تنقلب الأجواء رأساً على عقب إذا ارتفع مستوى الضغوط إقليمياً ودولياً على إيران، بحيث يضطر «حزب الله» إلى الحسم في لبنان». ويضيف هؤلاء: «إذا وَجدت إيران نفسَها على طريق الخسارة في بعض الشرق الأوسط، فإنها ستحاول تعويض خسارتها في لبنان. وإذا ربحت إيران معركتها في الشرق الأوسط، فستترجم انتصارَها، هي وحليفها «حزب الله» في لبنان.

وحتى ذلك الحين، على القوى الأخرى أن تدرس جيداً إلى أيِّ حدود تستطيع «الشدّ»، وإلى أيِّ حدود يتوجّب عليها «الرخي»!