كان المؤتمر السنوي السابع الذي عقده المركز العربي للابحاث ودراسة السياسة في تونس الاسبوع الماضي، تحت عنوان : "العامل الخارجي وإشكاليات الانتقال الديموقراطي في البلدان العربية بعد العام 2011" ، مناسبة لاستكمال عملية إلتقاط إضاءات وإشارات ترد من الغرب، ومن واشنطن خاصة، حول أحد أهم عوامل تشكيل الموقف الغربي من الربيع العربي، في مطلع العقد الحالي، وحول أحد أهم عناصر تشكل محور الثورة المضادة، ونجاحه الراهن لا سيما في مصر وسوريا.

لم يكن المؤتمر مهجوساً بذلك العامل تحديداً، ولا كان معنياً بالايحاء بأن ثمة "مؤامرة خارجية" حاربت ذلك الربيع وأحبطته. همّ المشاركين وأوراقهم المبنية على أسس علمية، لا على قواعد صحافية، كان التدقيق في مواقف الخارج، الاميركي والاوروبي من الثورات العربية، والتحقيق في مواقف المحيط الاقليمي التركي والايراني خاصة من تلك الثورات.. وفي الأثر الذي تركته في أكثر من حالة عربية، مع التركيز على الحالتين المصرية والسورية تحديداً، بصفتهما نموذجين صالحين للدراسة والبحث.

ما زال ذلك العامل أو الموقف الاسرائيلي من الربيع المصري والسوري خاصة، أقرب الى الأسرار المحفوظة في الخزائن، التي لن تنكشف بالكامل الا مع مرور الزمن. لكن  الاشهر القليلة الماضية، سمحت بتسرب بعض هذه الاسرار، على شكل فقرات في كتاب هنا، وجمل في وثيقة هناك، ومقتطفات من حوار مغلق دار بين المسؤولين الاسرائيليين وبين نظرائهم الغربيين في الايام الاولى من الثورة المصرية او السورية، ثم في الايام التي أعقبت فشل الثورتين، وتمكّن الثورة المضادة في البلدين، وما تبلور في أعقابها من حلف غير معلن بين إسرائيل وبين السعودية ودولة الامارات، يجري تقديمه الآن بصفته لقاء في المصالح ضد إيران، بينما هو في الاصل قام لمواجهة الثورات العربية.

المؤتمر تطرق في عدد من أوراقه الى العامل الاسرائيلي، من زاوية الاستعادة للمواقف التي عبر عنها كبار المسؤولين الاسرائيليين وعلى رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الموجود في السلطة منذ ما قبل الربيع العربي بعامين، وما زال. قراءة هذه المواقف وتحليلها أعاد الذاكرة الى تلك الايام التي كانت فيها إسرائيل "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط"، تعبر عن الصدمة ثم الخوف الحقيقي من قيام ديموقراطيات عربية في جوارها، ما يمكن ان يغير جوهر الصراع العربي الاسرائيلي الذي ظل لعقود مبنياً على تواطوء بين الدولة الاسرائيلية وبين الدكتاتوريات العربية التي قفزت الى الحكم بذريعة ذلك الصراع ودامت في السلطة بفضله.

في الاونة الاخيرة ظهرت مؤشرات، على أن الموقف الاسرائيلي كان حاسماً في لجم الاندفاع الغربي، والاميركي تحديداً، نحو تشجيع الربيع العربي. ولعل ابرز مثال هو حماسة الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما وتوصيته بل ومساهمته المباشرة في تنحي الرئيس حسني مبارك، وفي تحويل ميدان التحرير ورموزه وشهدائه الى أيقونات للحرية المصرية المكتسبة يومها، ودعمه الصريح للعملية الديموقراطية المصرية الى حد إتهامه بأنه حليف "الاخوان المسلمين" وشريكهم.. ثم فجأة تنصل أوباما وإدارته من تلك السياسة، الى حد التسامح مع الانقلاب العسكري المصري. وكان ذلك كما ظهر أخيراً ، نتيجة تدخل إسرائيلي مباشر حذره شخصيا، من خطر تحييد المؤسسة العسكرية المصرية، على الأمن القومي لدولة إسرائيل، الذي لا يحتمل إختباراً ديموقراطياً في مصر مهما كان متواضعاً.

الامر نفسه تكرر في سوريا، التي تابع أوباما ونتنياهو معاً ثورتها عن قرب أيضاً. صحيح أن الرئيس الاميركي السابق لم يكن على القدر نفسه من الحماسة لثوارها الذين وصفهم بأنهم "أطباء ومدرسون ونقابيون لا يستطيعون حكم سوريا" لكنه كان في البدء داعماً صريحاً لخيار الاطاحة بالرئيس بشار الاسد، وتنبأ له بأن أيامه معدودة، وأيد فكرة قيام تجربة ديموقراطية سورية.. الى أن جاء التحذير الاسرائيلي أيضاً، من مغبة اللعب بأمن الحدود الشمالية لأسرائيل الذي يشهد إستقراراً فريداً، والذي سبق لإبن خال الرئيس الاسد، رامي مخلوف ، ان نبّه الى المصلحة المشتركة في دوامه، وهو ما كانت إسرائيل ولا تزال حتى اليوم تؤمن به وتعمل على أساسه. فالحياد الذي عبرت عنه في السنوات الثلاث الاولى من الثورة السورية، كان في جوهره دعماً لبقاء الاسد، جرى إبلاغه الى الاميركيين والاوروبيين بشكل واضح وصريح. لكن الاسد نفسه الذي كان على وشك السقوط خلال أسابيع في العام 2015، حسب التقدير الايراني ثم الروسي، وجد نفسه مضطراً للاستعانة بالقوة العسكرية الايرانية المباشرة. عندها فقط وصلته الرسائل الاسرائيلية العلنية والخفية بأن حكمه بل وقصره سيكون مهدداً إذا إعتمد على إيران، وسمح بتمركزها في سوريا.