تزامناً مع أمل البعض بإحياء الحوار حول تأليف الحكومة الجديدة بعد عودة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من نيويورك، هناك من يعتقد انّ المواقف الأخيرة أعادت الملف الى نقطة الصفر. ويجزم أحدهم قائلاً: «صحيح اننا في 26 ايلول، امّا في الواقع فاننا في 25 ايار 2018 ولم ينجز من عملية التأليف سوى تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيلها. فما الذي يقود الى هذه النظرية؟
 

في ظل الروايات والسيناريوهات المطروحة لحل عقدة تأليف الحكومة، وعلى وقع المواقف والتكهنات المحيطة بالتأليف والمعادلات الخاصة بالحصص والأحجام، يبدو لبعض المتعاطين بالملف انه عاد الى نقطة الصفر. ومردّ ذلك الى انّ جمود عملية التأليف منذ مطلع ايلول الجاري لا يوحي بإمكان ولادة الحكومة في المدى المنظور، توصّلاً الى القول انّ اللحظة الحالية توحي وكأنّ البلاد في 25 ايار ولم ينجز من العملية الدستورية بكل مراحلها سوى تكليف الرئيس سعد الحريري مهمة التأليف.

وإذا سُئل أصحاب هذه المعادلة السلبية عن الأسباب التي دفعتهم الى هذا الكم من التشاؤم، أجاب أحدهم «انّ العوائق كثيرة». وقد اختلط ما هو داخلي منها بما هو خارجي. فجُمِّدت المبادرات وتعطلت مفاعيلها وفقدت المخارج الممكنة. فالقراءة المتأنية لسلسلة المعادلات التي كرّستها اقتراحات الرئيس المكلف، والتي نقلها الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، قد سقطت وكأنّ البلاد في اليوم الأول للتأليف.

وبالعودة الى بعض المراحل التي قطعتها عملية التأليف التي دخلت شهرها الخامس، يتبيّن انّ ما تحقق لا يعدو كونه تجديداً للتكليف شبه الشامل للحريري بغية تشكيل الحكومة، وقد أنهت مؤشرات ظهرت في الأيام الأخيرة الجدل الذي كان ما زال قائماً حول المفهوم الدستوري للمهلة المفتوحة بلا سقوف، والمعطاة للرئيس المكلف لإتمام المهمة الموكلة اليه.

وفي التفاصيل، فقد توقف العارفون عند بعض الدلائل التي أوحت أنّ مهمة التأليف المتعثرة لألف سبب وسبب ما زالت في المربّع الأول. ففي ظل سقوط كل التشكيلات الحكومية التي تمّ التداول بها الى الآن، لم يبق من الآلية المعتمدة سوى تجديد الثقة بالرئيس المكلف. فالرئيس نبيه بري عندما اعترض في بداية الجلسة التشريعية على وجود الحريري في صفوف النواب دعاه الى أن يأخذ مكانه في الصف الحكومي على قاعدة «عشنا ومتنا لنشوفَك هون». فيما قدّم رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» في جولة أخرى من الجلسة عينها إشارة أخرى الى تمسّك «حزب الله» بالحريري رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة لمجرد الكشف عن حجم التناغم القائم بين «حزب الله» و»التيار الأزرق» في هذا الملف، على رغم حجم الملفات العالقة والمختلف عليها بين الطرفين بوجهيها المحلي والإقليمي.

كل ذلك يجري وسط صمت مريب وشلل على مستوى المساعي المبذولة لتشكيل الحكومة العتيدة. فالمشاورات والزيارات المكوكية للوسطاء غابت عن المشهد السياسي على اكثر من صعيد. فوزير الثقافة غطاس خوري «لم يضرب ضربة واحدة» في المهمة المكلّف بها منذ أن زار عون في 7 ايلول سعياً وراء هدنة جمّدت النقاش الحامي بين التيارين الأزرق والبرتقالي حول الصلاحيات، تمهيداً للبحث في ملاحظات رئيس الجمهورية حول شكل التشكيلة الوزارية الأخيرة التي تسلّمها من الحريري في الرابع من الشهر الجاري.

والى هذا المؤشر فقد تمّ ربط هذا الشلل على مستوى التأليف، بفشل اللقاء الذي عقده قبل عشرة ايام وزير الاعلام ملحم الرياشي مفوّضاً من رئيس حزب «القوات اللبنانية» مع رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، والذي كأنه لم يكن. ذلك انّ كل ما تمّ التداول فيه خلال اللقاء لم يغيّر قيد أنملة في مواقف الطرفين من عملية التأليف التي بلغت حدود اللاعودة الى «تفاهم معراب» شكلاً ومضموناً، وما أنتجه من تفاهمات يمكن ان تؤثر في عملية تشكيل الحكومة العتيدة.

وزاد في الطين بلة، ما بلغه حجم النزاع في المنطقة من تصعيد غير مسبوق. وتحديداً على جبهة المواجهة الأميركية ـ الإيرانية على الساحتين السورية والعراقية، والتي حوّلت الساحة اللبنانية مكملة لهما في مثل هذه المواجهة في ضوء أجواء التوتر السائدة، وهو ما رفع من نسبة الضغوط الأميركية على القيادات اللبنانية التي فرزت بين مؤيّد للعقوبات على إيران وبين داعية الى مواجهتها، ما انعكس على مساعي التأليف بشكل من الأشكال. وهو أمر ترجم فقدان اي حضور للملف اللبناني على أجندات الدول حتى الصديقة للبنان منها. فلبنان متروك لقدره وإرادة قادته ليحلّوا مشاكلهم بأيديهم رغم عجزهم الظاهر، والذي زاد منه ما عكسته الأجواء الضبابية في سماء المنطقة والمرشحة لكل السيناريوهات، بما فيها الكارثية، إذا تطور الخلاف الروسي ـ الإسرائيلي وترجم إشكالاً في سماء منطقة العمليات فوق سوريا ولبنان وشرق البحر المتوسط.

ومن دون الدخول في كثير من العناصر الأخرى التي تعوق تشكيل الحكومة، يبدو انّ الملف قد طوي وصولاً الى النظرية التي قالت ان ما أنجز من الآليّة الدستورية لتشكيل الحكومة بات فعلاً متوقفاً عند تكليف الحريري. وكل ما يليها من مراحل دستورية وسياسية، ولاسيما منها التشكيلات الوزارية التي باتت مطروحة للبحث بكل تفاصيلها، وهي عرضة لتغييرات يعجز أي طرف عن تحقيق ما أراده منفرداً.

وعليه، إذا لم ينجح أيّ من طرفي النزاع في فرض وجهة نظره في المدى المنظور، فستبقى المعادلة السلبية قائمة ويترجمها جمود التأليف الى حدود انعدامه والى أجل غير منظور، في انتظار مفاجأة ما لا يستطيع أي كان احتسابها.