الطائفية أرادوها قدرا لعملية سياسية تضمن لهم تداول السلطة وأصوات الناخبين في نظام ديمقراطي مهلهل تتفاوت فيه الأحزاب، إسلامية أو علمانية وليبرالية أو يسارية.
 

العنوان الطائفي للسياسيين في العراق أصبح لازمة في الإعلام العالمي وكأنه الاسم الأخير للعائلة، ورغم أننا في التوصيف العام للطائفية لأحدهم، ومن أي طرف في فوضى المشهد السياسي، إنما نريد إضفاء الحيادية وتخفيف حدة الانقسام والتعصّب المذهبي.

صادفتنا إحراجات كثيرة في الأيام الأولى من احتلال العراق، والظروف أجبرتنا مع التزاماتنا الصحافية على استقبال نماذج طارئة فعلا على ثقافتنا ويوميات تعايشنا الإنساني والذي تشكلت بموجبه وخلال سنوات طويلة مفاهيم واهتمامات بعيدة تماما عن التصنيف الديني والمذهبي والعرقي والقومي. فمن نحيا معهم خليط متجانس من العرب والأكراد والمسيحيين والتركمان ومن مختلف المحافظات، وبينهم فنيون مهرة في التصوير والتصميم، وبعضهم أساتذة في اللغة العربية ومترجمون وعدد من الرسامين في فن الكاريكاتير والتخطيطات، إضافة إلى المختصين في الأجهزة الإلكترونية.

فجأة ودون تمهيد التقينا بمن يقدم نفسه بعد أسبوع من احتلال بغداد، على أنه أحد قادة حزب الدعوة، وآخر من المجلس الأعلى وآخر من منظمة بدر، وآخر من حزب العمل الإسلامي، وهكذا ورغم اختلافهم ومزاجاتهم وآرائهم ومعها مخاوفنا وحذرنا، إلا أنهم اتفقوا جميعا على تعريف أنفسهم بأنهم من الطائفة الفلانية ومن مقلدي المرجع الفلاني، والضغط علينا باتجاه التعريف المذهبي الخاص بنا، والمبرر لديهم وضوح الهوية المذهبية لكونها العمود الفقري لديهم في تقييم أي حوار شخصي أو وطني.

المهم هو ما انتهت إليه تلك التجربة التي ضمّت ما يقارب مئة فني في مجال العمل الصحافي في ظروف الحصار الصعبة، وكان من بينهم اختصاصات من حملة شهادات الدكتوراه والماجستير؛ بعضهم الآن من أثرياء الاحتلال الأميركي والإيراني ومنهم من استحوذ على مقعد في مجلس النواب فيما توزع آخرون في صحف أو قنوات فضائية؛ لكن ما ميز غالبيتهم أنهم انقلبوا على ما كان يجمعنا من حب للحياة والعمل تحت سقف الإبداع بإنسانية مفرطة في المعنى والجوهر.

يؤلمنا أن بعضا من كنا نعتبرهم إخوة أو أبناء لنا يتفاخرون اليوم، بطائفتهم وأموالهم وانتماءاتهم حتى بأثر رجعي، كأنهم يوصلون لنا رسائل براءة من تلك الأيام، حيث كنا أصدقاء بمرتبة الإخوة نقاوم معا محنة الحصار والجوع وهزال أحلامنا بالوطن.

الطائفية أرادوها قدرا لعملية سياسية تضمن لهم تداول السلطة وأصوات الناخبين في نظام ديمقراطي مهلهل تتفاوت فيه الأحزاب، إن كانت إسلامية أو علمانية وليبرالية أو يسارية أو من اليمين أو من الوسط، أو راديكالية في نزعاتها الفكرية، أو لكونها مجرد أحزاب لشخصيات أرادت أن تجد لها موطئ قدم مالي أو صفقة تجارية بفرصة مؤقتة أو دائمة أو لتقاعد مريح.

لكن ما اجتمعت عليه منذ البدء هو النشوة بالاحتلال ونيل رضا المحتل الأميركي ومباركته للمحاصصة الطائفية في سلطة وضعت قواعدها على ولاية فقيه عراقي ومراجع دينية متباينة، سرعان ما أشعلت حماسة الفتنة لتعلن عن مشروع تقسيم العراق طائفيا، بما شجّع على إيصال رسالة مفادها سقوط نظام الدولة والسيادة والاستقلال والمواطنة في دعوة صريحة للتكتل حول مركز القوة الخاص بكل فئة والاحتماء بالمكان ونسيجه الموحد.

نشوء العملية السياسية للمحتل كان بمثابة “عزيمة” أو وليمة طعام لجياع السلطة لنهش مغانمها بشراهة، لذلك ظل السفير الأميركي زلماي خليل زاده يؤكد على ضرورة الالتحاق بالعمل السياسي لمن هو رافض للاحتلال، لأن من تفوته هبة الاحتلال لا يمكن له التعويض في السنوات التالية عندما تستقر السلطة تماما بيد من جاء أولا بحماية الدبابات وبتوصيات المخابرات.

خاب العملاء وخاب من التحق بهم؛ وبعد أكثر من 15 سنة من الاحتلال الأميركي هناك طائفة سياسية تتداول السلطة والمال وتتداول أيضا السباب والشتائم والملفات والفساد ولي الأذرع والمباهاة بفساد الذمم وبشراء وبيع المناصب والتمتع بسباحة هادئة في المياه الدافئة، حيث تلتقي إرادة الاحتلال الأميركي بإرادة الاحتلال الإيراني في حكم العراق واستمرار نظام المحاصصة الطائفية.

في العراق ثمة طائفة لا علاقة لها بالمذاهب الدينية المتعايشة في العراق على اختلاف نصوصها ورواياتها وطفرات اجتهاداتها. طائفة لها مذهب خاص بالاحتلال بالإمكان أن نجمع فيه أسباب عثرات ومصائب العراقيين. طائفة من اللصوص وقراصنة المال. طائفة من السياسيين ابتلعت المبادئ والقيم الإنسانية والوطنية والسماوية، وورّطت أصحاب النيات الحسنة من المجتهدين في الفقه والشريعة والمتعلمين والمعلمين المتنورين في الحوزات أو في المدارس الدينية. طائفة ابتلعت ثروات العراق وصارت مثلا لكل سرقة وفساد في العالم.

مدينة أميركية اتهمت قبل أيام أحد مسؤوليها بالفساد، وهو من الذين خدموا ضمن طاقم الاحتلال في العراق ووصفته بتلميذ نجيب للساسة العراقيين بعمليات فسادهم، لأن الأموال المهدورة في مشاريع إعمار وهمية تجاوزت الآلاف وسرقات بعض السياسيين وأحزابهم تتصدر بفارق كبير أكبر السرقات عبر تاريخ اللصوصية والقرصنة.

طائفة مقابلة لهؤلاء بات يمثلها الشعب المغلوب على أمره بأرقام تؤشرها مفوضية حقوق الإنسان بـ8 ملاين شخص لا يقرأ ولا يكتب، في زمن انتقلت فيه مؤشرات الأمية إلى عدم القدرة على استخدام الحاسوب أو تعلم العزف على آلة موسيقية أو غيرها.

طائفة لزوما عليها أن تتعلم التمرد على طائفة سياسية من خلفها أجندات إبادة بصلاحيات ميليشياوية ومهمات بديلة بأوامر من ولاية الفقيه في إيران، والتي تتجه إلى العربدة في الداخل الإيراني بعد تخطي خط الفقر عتبة 50 مليون مواطن، وإقدامها على إقامة حفلات إعدام جماعية في سجونها، وتحديدا في ذكرى الرد العراقي على عدوانها في يوم 22 سبتمبر من كل سنة، والذي كان صادما هذه السنة بإطلاق النار على منصة الاحتفال الرسمي في مدينة الأحواز العربية.

النظام الإيراني يتخبّط في عرض قوته بالهجوم على الأكراد في كردستان العراق، أو بإعدام بعض المقاومين الأكراد، وكذلك الأمر مع عرب الأحواز أو البلوش أو الأذريين أو القوميات الأخرى، ويلجأ إلى أكبر حملة إعدامات بالمعتقلين السياسيين بإسقاط تهم وجنح عليهم معظمها مخلّ بالشرف لينأى عن المساءلة والمتابعة الحقوقية والأممية.

في توقيت انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة تطالب جهات مطلعة على الدور الإرهابي للنظام الإيراني، بطرد البعثات الدبلوماسية الإيرانية من عديد الدول لتفادي أنشطتها في دعم العمليات الإرهابية؛ لكن الأمر في العراق مختلف إذ إنه لا يتعلق بنشاط دبلوماسي مشبوه، إنما بنظام ميليشياوي يتسيّد بسلاحه حماية نظام الطائفة السياسية التي هبطت على العراق في 9 أبريل 2003، نتيجة إخفاقات كثيرة أدت إلى تشظي العراق الذي نادمناه في خنادق الموت على الجبهات، وأضاعت من بين أيدينا تلك الصداقات التي كنا بسببها نغض الطرف عن معاناتنا في وطن يبدو أنه لن يغادرنا تحت أي نجمة مضيئة بالأمل أو منطفئة.