عند كل مفترق طريق أو أزمة سياسيّة داخلية أو إقليمية، ينقسم لبنان الى محاور عدة ويتوزع سياسيّوه وقادتُه بين مؤيّدٍ لتلك الدولة أو مناهضٍ لذاك البلد.
 

لم ينجح اللبنانيون منذ استقلالهم عام 1943 في بناءِ سياسةٍ خارجية موحّدة أو وضعِ استراتيجيةٍ عامة يسير عليها المسؤولون، فكانت «شريعة الغاب» أو منطق المزرعة، المتحكّم الأول باللعبة الدبلوماسية وبتقرير السياسة الخارجيّة.

وما تصريح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من نيويورك عبر الـ»لو فيغارو» الفرنسيّة، سوى تعبير واضح عن الضياع اللبناني، أو انعكاس لما تعيشه الساحة اللبنانية من خلل بنيويّ وغياب الرؤية الموحّدة. والتناقضُ كان واضحاً في التأكيد على مبدأ «النأي بالنفس» من جهة، ومن جهة ثانية قوله «إنّ «حزب الله» لا يلعب أيَّ دورٍ عسكري في الداخل اللبناني ولا يقوم بأيِّ عمل على الحدود مع إسرائيل، ولقد بات وضعُه مرتبطاً بمسألة الشرق الأوسط وبحلّ النزاع في سوريا».

ويحمل كثيرون على هذا التصريح، فيما البعض من أحزابٍ وتياراتٍ عملت تحت شعار «14 آذار» يرى أنّ كلام الرئيس لا يتلاقى مع المصلحة الوطنية العليا، وذلك في ظلّ السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة والعالم، وإصرار الرئيس دونالد ترامب على «قصقصة» جوانح إيران في المنطقة ومن ضمنها «حزب الله» والجماعات الشيعية التي تدور في فلكها.

وتأتي هذه المواقف وسط مخاوف من أنّ لبنان لن ينجوَ من الملاحقة الأميركية ومن سيف العقوبات المسلّط فوق رقبته. وتؤكد مصادر دبلوماسيّة لـ»الجمهورية» أنّ ترامب جادٌ في مسألة العقوبات على طهران وهو لا يراوغ، وإذا وجد من ضرورة لفرض عقوبات جديدة فلن يتأخر.

وترى المصادر أنّ واشنطن تفصل بين الشقّ الأمني المتعلّق بلبنان والشقّ السياسي، وهذا بات ظاهراً للجميع، ففي الحسابات الأميركية فإنّ استقرارَ لبنان يأتي في سلّم الأولويات، لكنّ التساهل الرسمي اللبناني تجاه «حزب الله» يستفزّ الأميركيين ويجعلهم يبدّلون استراتيجيتهم تجاه لبنان.

وتشرح المصادر أنّ اللعبَ في مسألة «حزب الله» هو خطّ أحمر بالنسبة لواشنطن، وولاية ترامب مختلفة كثيراً عن سلفه براك اوباما، وبالتالي فإنّ أيَّ خطأ في غير محلّه سيكلف لبنان كثيراً، في وقت لا يتحمّل وضعُه الاقتصادي أيَّ عقوبات أميركية شبيهة بالتي فُرضت وتُفرض على تركيا وإيران والصين ودول أخرى.

ويترافق هذا المسار الأميركي مع مسارٍ خليجيٍّ وعربيّ متشددّ جداً تجاه «حزب الله» وإيران، إذ إنّ المحور العربي لا يريد تسليم البلاد لـ»حزب الله»، وهذا ما يدحض كل الكلام السابق عن أنّ السعودية وحلفاءَها تخلّوا عن لبنان.

وأمام هذا الواقع، لا يبقى أمام المسؤولين اللبنانيين إلّا التفتيش عن مخارج وعدم الانجرار الى لعبة المحاور، خصوصاً أنّ تجاربَ الرؤوساء اللبنانيين لا تشجّع في نيويورك، وقد حصلت أخطاء عدّة سابقاً دفع لبنان ثمنها.

ويأتي استحقاقُ البيان الوزاري، إذا ما تألّفت حكومةٌ، ليلامسَ مجدداً مسائل خلافية لم تستطع حلّها كل طاولات الحوار السابقة كالإستراتيجية الدفاعية، وهذه القضية ملاصقة لمسألة «النأي بالنفس»، لأنه لو لم يكن «حزب الله» يملك سلاحاً لما كان ذهب وقاتل في اليمن والعراق وسوريا، وأصبح قوّةً عسكريةً إقليمية لا يقتصر دورُها فقط على محاربة إسرائيل بل يتخطاها الى المشاركة في حروب المنطقة، وكل ذلك حصل سابقاً تحت عيون الأميركيين.

من «لا شرق ولا غرب»، مروراً بـ»الحياد الإيجابي»، وصولاً الى «النأي بالنفس»، كلها شعارات ومصطلحات طُرحت على الساحة اللبنانية، وتفاعلت، لكن من دون أن يلتزم أحدٌ بها، وبقيت حبراً على ورق، في وقت سبّب عدمُ تطبيقها حروباً وفتناً ودماراً وخراباً.