نجح الرئيس نبيه بري في احتواء «حفلة زجل طائفي» كانت ستدور تحت قبة البرلمان، وطلب شطبها من المحضر. وفي المقابل، يتكفَّل اللواء عباس ابراهيم باحتواء «حفلة زجل طائفي» دارت على الأرض بين «الرؤوس الحامية» في «التيار الوطني الحر» والحزب التقدمي الاشتراكي، بعدما فتَحوا جروحاً قديمة وأثاروا القلق من جروحٍ جديدة. وهذا ما دفع أهل الجبل إلى طرح السؤال: هل مسموح لأصحاب النكايات السياسية أن يغامروا بالجبل، مرّة أخرى؟
 

إذا كانت مسألة سخيفة، هي «الحرتقة» المتبادلة بالموظفين في الوزارات بين الاشتراكي و«التيار»، وتصريحٌ من هنا أو تغريدة من هنا، قادرة على توتير الجبل… إلى حدّ الاستعانة بضمانةٍ أمنية بحجم اللواء ابراهيم، فهذا يعني أنّ أموراً كثيرة ليست على ما يرام وتحتاج إلى الإيضاح، وأنّ كلاماً كثيراً يجب أن يقال كي يتحمّل كلٌّ مسؤوليته!

في الأساس، ووفق ما هو متداوَل، ليس الاشتراكي هو الذي يقف وراء قرار الوزير مروان حمادة، والقاضي بتعديل مهمات إحدى الموظفات المحسوبات على «التيار» في وزارة التربية، بل رئيس الحكومة. ولكنّ الوزير وافق عليه، طبعاً. فجاء ردُّ العونيين باستهداف موظفين محسوبين على الاشتراكي في وزارتي البيئة والطاقة.

وفي الموازاة، يتصارع الاشتراكي و«التيار» في ملف تأليف الحكومة. فـ«التيار» يصرّ على أن يكون له رأيٌ في الحصّة الدرزية، من خلال دعم توزير النائب طلال إرسلان أو مَن يمثّله. وقد عاش الطرفان خلافاً عميقاً خلال الانتخابات النيابية الأخيرة. 

المشكلة، كما يراها مرجعٌ سياسي في الجبل، هي أنّ بعض المَوْتورين سمح لنفسه- لغايات رخيصة- باللجوء إلى استثارة «محرَّمة» في الجبل، بكل المقاييس، عندما حاول استثمار مناخات الحرب انتخابياً. 

وبلغ الأمر بالبعض إلى التعريض بالكرامات والشهداء واللعب بغرائز الناس وجروحها، لعلّ ذلك يَدرُّ الأرباح السياسية. ولكنّ نتائج ذلك ليست مضمونة. وأظهرت الانتخابات أنّ التحريض انعكس سلباً على الذين مارسوه، لأنه خلق اصطفافاً طائفياً في الصفّ المقابل. 

والمثير أنّ عملية «فتح الجروح» تمّت اليوم بين الاشتراكي و«التيار»، فيما الطرفان اللذان تقاتلا أساساً في الجبل، العام 1983، هما الاشتراكي و«القوات اللبنانية». وفي مرحلة متأخرة، بعد الطائف، جاء قتالُ العماد ميشال عون في سوق الغرب ضد القوات السورية أولاً وضد الميليشيات الحليفة لها ثانياً. 

ويطرح المرجع أسئلةً «مشروعة» حول وقائع الأيام الأخيرة واحتمال تكرارها في أيّ وقت لاحق: هل مسموحٌ بعد 26 عاماً من انتهاء الحرب أن تؤدّي «حرتقة» سياسية بين زعامات مسيحية ودرزية إلى استثارة المخاوف من فتنة؟ ولماذا لا يتهدّد السلمُ الأهلي إذا جرت «حرتقة» مماثلة بالموظفين، بين سياسيين من طوائف أخرى؟

مثلاً، إذا حصل ذلك بين السنّة والشيعة، هل يتوتّر الجوُّ في الطريق الجديدة وصيدا وحارة صيدا وإقليم الخروب وبعلبك- الهرمل وقرى البقاع الغربي؟ 

وإذا حصل بين المسيحيين والشيعة، هل يتوتر الناسُ طائفياً في الضاحية وجزين وجبيل وبعلبك- الهرمل؟ ولو حصل ذلك بين المسيحيين والسُنّة هل كان الناسُ سيستنفرون طائفياً في بيروت وصيدا وطرابلس والشمال؟ 

بل، لو جرت «حرتقةٌ» بالموظفين بين جنبلاط وقوى شيعية أو سنّية، هل كان التوتّرُ سيهدّد الجبل كما جرى قبل أيام؟

على الأرجح، كلُّ هذه السيناريوهات الافتراضية كانت ستنتهي من دون خضّات، لا أمنية ولا اجتماعية، وسيبقى الخلافُ محصوراً بالسياسة. وأما نموذج 7 أيار فله تفسيراتٌ أخرى. 

إذاً، لماذا توتّر الجوّ في الجبل لمجرد الخلاف سياسياً بين الاشتراكي و»التيار» على موظف هنا أو هناك؟

يسارع البعض إلى القول: ربما لأنّ الحرب في الجبل، بين مقاتلين مسيحيين ودروز، كانت أكبر من كل الحروب الأخرى لجهة حجم الدم والدمار والتهجير، دفعة واحدة. وهذا صحيح. ولكن، على الأرجح، ليس هذا هو السبب وحده، بل الأساس هو أنّ هناك اليوم مَن يستسهل «المرجلة»، في الطرفين.

وهذه «المرجلة» هي التي قادت المجموعتين إلى الكارثة ذات يوم. وقد ثبت لاحقاً أنّ معظم زعمائهما تصرّفوا بقِصر نظر واستهانوا بموقع الجبل، قلب لبنان، وعقدوا الرهانات الخاطئة، فدفع أهلُ الجبل جميعاً ثمناً باهظاً، وما زالوا. 

واليوم، عندما لا يتورّع بعض السياسيين عن اللعب باستقرار الجبل، مجدداً، فمعنى ذلك أنّ البعض لم يتعلّم شيئاً من دروس التاريخ، وأنه مستعدٌّ لتهيئة الظروف لتكرار الكارثة إذا شاءت الظروف أن تدفعه إليها!

لذلك، في رأي المرجع، من غير المسموح تمرير ما جرى وكأنه حادثٌ عابر. وإنّ كوادرَ الطرفين وقياديّيهم يجب أن يكونوا مسؤولين أمام القانون عن إثارة مشاعر الفتنة. وقد يكون بعض الكوادر أو المحازبين مدسوساً لتحقيق غايات معينة. ويجب كشفه ومحاسبته إذا كان يراد قطع دابر الفتنة في أيّ وقت لاحق. وإن الذين استثاروا ذوي الشهداء ورفاقهم وبيئتهم، هنا وهناك، مسؤولون أمام القانون، وعلى الناس أن يحاسبوهم. كما أنّ المواطنين العاديين الذين انجرّوا إلى لعبة التهديد والتحقير والتوتير، ولو بالكلام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يجب أن يُحاسَبوا أمام القانون.

وتكليف اللواء إبراهيم أن يسهر على الملف يشكّل ضمانةً أمنية كافية ووافية. لكنّ الضمانات السياسية والاجتماعية والنفسية تبقى مسؤولية القوى السياسية. 
وفي اعتقاد المرجع أنّ تمرير مسألة التوتر في الجبل، وكأنها مجرد ظاهرة عادية يمكن إنهاؤها بتبويس اللحى أو بتصاريح سطحية وعمومية- خبيثة أحياناً- وبالاتّكال على الأمن اللبناني كي يضبط الوضع، من شأنه أن ينهي المشكلة مرحلياً ويبقيها مرشحة للتكرار في أيّ لحظة. ويمكن القول إنّ أمن الجبل يصبح حقيقياً ودائماً عندما لا تؤدّي «حرتقة» سياسية صغيرة، بين مَوْتورين، إلى إستثارة الخوف من فتنة. 

ويقول المرجع: اللحمة الاجتماعية بين المسيحيين والدروز يُفترض أن تكون اليوم في أفضل أحوالها. فالطرفان متشابهان في الكثير: تاريخياً، كلاهما مؤسِّسان في جبل لبنان. وحالياً، هما لا يرتبطان بمحاور إقليمية، ولا يعيشان عقدة الغالبية في لبنان ولا يطمحان إلى أن يكونا كذلك، وعلى العكس، هما أقليتان في الشرق الأوسط والعالم العربي. 

ولذلك، يضيف، لا تفسيرَ منطقياً لما جرى أخيراً من توتُّر و»مَراجل» بين بعض القوى السياسية... إلّا إذا كان البعض يريد إثبات مقولة «جحا ما فيه إلّا عَ خالتو»! وفي أيّ حال، من أجل المصلحة الوطنية ومصلحة الجبل، هؤلاء المَوْتورون «اشطبوهم من المَحضر»!