دور الرياض القيادي في أوبك لا يمكن الالتفاف عليه، وتنسيقها مع الدول المنتجة من خارج أوبك بقيادة روسيا يقلب الموازين ويخفف من دور واشنطن السياسي في الظاهر.
 

كما في السياسة الدولية، تتنافس واشنطن وموسكو على مركز الصدارة والتأثير ليس على كل الاقتصاد بل على سوق الطاقة. لكن أحلاف اللعبة السياسية وخلافاتها لا تتطابق بالضرورة مع محاور مرتسمة في سوق النفط مع أنه لا ينفي التداخل بين الجغرافيا السياسية والنفوذ الاقتصادي.

واللافت أن ثلاثي التجاذب في الدائرة الأولى في سوق النفط يتكون من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، خاصة أنه منذ 2014 تعاظم إنتاج الولايات المتحدة بفضل النفط والغاز الصخري، وأتاح لها ذلك أن تصبح في أغسطس 2018 أول بلد منتج للنفط (يتراوح إنتاج هذا الثلاثي بين 10 و12 مليون برميل يومياً).

 لكن من ناحية استقرار السوق وتحديد الأسعار يظهر بوضوح أن النزاع الخفي بين الرياض وموسكو بين 2013 و2015 بسبب الملف السوري وزيادة إنتاج المملكة من النفط، تـمت تسويته باتجاه بلورة اتفاق تكتيكي وميثاق استقرار يمكن أن يتطورا لاحقاً نحو محور سعودي- روسي سيكون له التأثير المستديم في سوق الطاقة، ويمكن أن يحتوي بعداً سياسياً قد يقلق واشنطن لجهة هيمنتها في الخليج التي حلت مكان الإنكليز منذ سبعينات القرن الماضي.

في هذا السياق، طالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب دول أوبك خاصة تلك الواقعة في منطقة الشرق الأوسط، بخفض أسعار النفط الخام فوراً، وأتى ذلك قبيل اجتماع مرتقب، في 23 سبتمبر الحالي، للجنة المراقبة في أوبك والمنتجين المستقلين المشاركين في اتفاق خفض الإنتاج، بالعاصمة الجزائر.

واللافت أن العقوبات أو السياسات الأميركية حيال إيران أو فنزويلا تسهم في رفع الأسعار نتيجة تراجع الإنتاج. لكن سيد البيت الأبيض الذي يخشى رد فعل المستهلك الأميركي إزاء ارتفاع أسعار البنزين وتصويته في انتخابات نصف الولاية في نوفمبر القادم، يحاول إلقاء مسؤولية رفع السعر على السعودية من دون تنبهه إلى أن مطالبته الرياض برفع إنتاجها للتعويض عن النقص في السوق لا يمكن أن تتم بمعزل عن عوامل أخرى.

للتذكير، بقيت العلاقة متينة بين واشنطن والرياض في سوق الطاقة مع احترام اتفاق كوينسي المرتكز على التبادل بين الأمن والنفط. لكن مع إنتاج النفط الصخري وقيام واشنطن بتصدير النفط إلى الخارج اعتباراً من 2010، تغيرت طبيعة العلاقة مع احتمال استغناء الولايات المتحدة الكامل عن الطاقة الآتية من الخليج ويرتبط الأمر باستراتيجية انكفائها من الشرق الأوسط التي روجت لها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وإعطاء الأولوية لآسيا والمحيط الهادئ، والرهان على الشراكة مع إيران.

وكل ما سبق أخذ يبرر السياسة المستقلة والجريئة التي تتبعها الرياض في سوق النفط. في المطلق، ليس من المنطقي تحميل الرياض أو حتى الدول الأخرى المنتجة والصديقة لواشنطن في الإقليم مسؤولية تقلبات السوق وارتفاع أو انهيار الأسعار، إذ لو افترضنا حصول اتفاق ضمن منظمة أوبك فهذا لا يفي بالغرض حيث لا تنتج أوبك أكثر من أربعين بالمئة من الإنتاج العالمي وتعتبر روسيا والولايات المتحدة من كبار المنتجين من خارج المنظمة. من هنا لم يعد تحديد الأسعار يتم بضغط أو قرار أميركي (حسب ما كان يُنسب إلى وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي اليماني) بل أصبح الأمر أكثر تعقيداً.

 لكن الثابت فيه دور الرياض المركزي في سوق الطاقة، وأن دورها القيادي في أوبك لا يمكن الالتفاف عليه وأن تنسيقها مع الدول المنتجة من خارج أوبك بقيادة روسيا يقلب الموازين ويخفف من دور واشنطن السياسي في الظاهر لأن شركاتها ولوبي البترول فيها لهما الدور الكبير في اللعبة الحرة في سوق النفط.

وشهد سوق النفط بلورة “ميثاق الاستقرار” في مارس الماضي بين السعودية ثالث منتج نفطي عالمي في 2018 وأكبر منتج في أوبك، وروسيا أول منتج نفطي عالمي في النصف الأول من العام 2018 وأكبر منتج مستقل، لكنه سرعان ما أخذ يهتز مع القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.

وقبل بدء الحظر النفطي الأميركي ضد هذا البلد في نوفمبر القادم، يتوافق الخبراء على أن ” وضع إيران هو العامل الأساسي في التأثير على تحديد أسعار النفط”. ومن الواضح أن مصاعب إيران وفنزويلا وليبيا تفيد كبار المنتجين وفي المقام الأول روسيا التي تجد في رفع إنتاجها والسعر المرتفع أفضل وسيلة للحصول على العملة الصعبة في زمن العقوبات الأميركية والحروب التجارية، أما السعودية التي تسعى لتطبيق رؤية اقتصادية جديدة وتتحمل تكاليف كبيرة لضمان الأمن والاستقرار الإقليمي من اليمن إلى الرقة شرق سوريا وغيرها، فتجد كذلك ضالتها في ازدهار سوق النفط وتتقاطع مصالحها في هذا الاتجاه مع موسكو.  

من الناحية الإحصائية، تخطى الاستهلاك العالمي للبترول، في شهر أغسطس الماضي، معدل 100 مليون برميل حسب التقرير الشهري (سبتمبر 2018) الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة. وهذا يؤكد على رقم قياسي وأن التزامات اتفاق باريس حول المناخ (ديسمبر 2015) لم يتم احترامها خاصة في مواجهة لعبة اقتصاد السوق في قطاع النفط خاصة على ضوء نهم الصين والدول الصاعدة ومشاكل تسويق أو إنتاج من إيران إلى فنزويلا وليبيا.

ومن هنا تركزت الأنظار على اجتماع الجزائر الأحد برئاسة أهم دولتين نفطيتين السعودية وروسيا ممثلتين بوزيري نفط الدولتين خالد الفالح وألكساندر نوفاك اللذين أصبحا منذ سنتين الشريكين الأساسيين في العمل على منع انهيار أسعار النفط واستقرار الأسواق.

ويحضر اجتماع الجزائر ممثلون عن 21 دولة منتجة من أوبك وخارجها أصبحت جزءاً من التحالف النفطي الذي أتاح سابقاً خفض الإنتاج ورفع الأسعار. بيد أن المستجدات الطارئة في المرحلة الأخيرة وأبرزها العقوبات الأميركية على إيران (انخفض تصديرها في سبتمبر حوالي مليون برميل بعدما وصل إنتاجها في أغسطس إلى 3.427 مليون برميل يومياً) التي سببت تراجع استيراد الصين وقرار معظم الشركات الأوروبية واليابان والهند وكوريا الجنوبية بوقف مشترياتها من النفط الإيراني. تُضاف إلى وضع إيران الحالةُ المزرية في فنزويلا التي يتراجع إنتاجها، وكذلك الحالة الليبية.

لذلك لا بد لاجتماع الجزائر أن يقرر زيادة الإنتاج على ضوء توقعات زيادة الطلب على النفط للفترة المقبلة، وهذا سيقود إلى سعر برميل بحدود الثمانين دولاراً وهو ما لا يلائم الرئيس دونالد ترامب لانعكاسه على ارتفاع أسعار البنزين في فترة انتخابات الكونغرس. مع العلم أن الولايات المتحدة منتج كبير ومصدر للنفط، ولكن مصافيها تحتاج إلى نوع البترول الخام المستورد من السعودية وغيرها لإنتاج البنزين.

والأرجح، أن الزيادة المتوقعة في خلاصة اجتماع الجزائر التي ستتحاشى إغراق الأسواق وتخفيض الأسعار، لا تتناسب مع رؤية واشنطن التي تنظر بحذر لتشكل محور سعودي- روسي يمكن أن ينتقل إلى الساحة السياسية خاصة إذا نجح الرئيس فلاديمير بوتين في القيام بدور مع إيران وإقناعها بالتخلي عن نهجها الهجومي في الإقليم. ويراهن البعض في أكثر من بلد خليجي عربي على دور لموسكو في ” تحجيم إيران” في سياق التوافق النفطي وهذا يشكل رسالة مشفرة موجهة إلى واشنطن.