أصدقائي، هذه ترجمة انتهيت منها للتوّ لمقابلة أجرتها صحيفة العالم (Le Monde) الفرنسيّة مع المؤرّخ الإسرائيلي ذائع الصيت في الغرب يوفال نوح هراري Yuval Noah Harari.
 

أي أحد يُتابع الصّحافة الغربيّة يعلم قدر الإحتفاء بهذ الباحث الإسرائيلي عالميًا منذ سنوات، فضلاً عن الترويج له من قبل شخصيات ذات سلطة سياسيّة عظيمة، أمثال أوباما سابقًا حين تحدّث عن قراءته لكتاب هراري الأول.
    المهمّ، قرأت نصّ المقابلة صباحًا، ووجدت أنها مهمّة المضمون، وإن لم يكن لي باع طويل في التّرجمة، إلا أني أدّيت المهمّة التي أملتها عليّ نفسي، وترجمت الحوار القصير، مع التحفّظ على عدد من العبارات التي توخّيت بقدر استطاعتي الدقّة في ترجمتها كي أحافظ على الآراء الواردة كما هي. إن كان لديكم من ملاحظات على الترجمة أو المضمون، فلا تتردّدوا!، سأكون سعيدًا إن قرأتها في التعليقات. 

*

 أجرى المقابلة مراسل الجريدة في القدس بيوتر سمولار. 

بعد الكتاب الأكثر مبيعًا «سابينس، تاريخ موجز للبشرية» (Sapiens: A Brief History of Humankind)، ينشر الأكاديمي الإسرائيلي، في 2 أكتوبر، كتابه «21 درسًا للقرن الحادي والعشرين».

يوفال نوح هراري، 42 سنة، وهو متخصص في التاريخ العسكري والعصور الوسطى، وهو محاضر في الجامعة العبريّة في القدس. في كتابه الأخير، 21 درسًا للقرن الحادي والعشرين، يحذّر المؤرّخ من التالي: قد يتعرّض الإنسان قريباً إلى القرصنة كالآلة. ثم يعرج على الأزمة البيئية، هشاشة الديمقراطيات الليبرالية، الأخبار الملفّقة، البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي لشرح التحدّيات على المدى البعيد.

*

في كتابك الجديد، «21 درسًا للقرن الحادي والعشرين»، تكتب أن أمامنا تحدّيين: الاختلال التكنولوجي والأزمة البيئية. القومية، التي يبدو أنها في تصاعد، هل لديها إجابات على هذين التحديين؟

هراري: على المدى البعيد، شكّلت القومية قوة نافعة. لقد مكّنت الشعوب من التعاون كما لم يحدث من قبل. على مدى ما يقرب من مائتي عام، كان السبب الرئيسي في ذلك هو الشعور القومي الذي كان الناس على استعداد لدفعه مقابل الأمان الاجتماعي ودولة الرفاهية. لكن القومية لديها أيضاً جوانب سيئة: رهاب الأجانب، التي تقود إلى الحرب. اليوم القومية لا تساهم إلا في مفاقمة الوضع سوءًا.

القومية ليس لديها أجوبة على المشاكل العالمية. من غير المستغرب أن يكون معظم الناس من اليمين القومي هم الذين ينكرون تغيّر المناخ. رؤية العالم في قلب موجة القوميّة الحالية، من فيكتور أوربان إلى ستيف بانون مرورًا بمارين لوبان، يتلخّص عبر شبكة من القلاع التي تدعو إلى منع الهجرة وفرض الضرائب على المنتجات الأجنبية - حصون الحماية من الحرب، من الأعداء، ومن التعددية الثقافية. لكن لا أحد يستطيع بناء جدار ضد الذكاء الاصطناعي أو ضد تغير المناخ.

لا يمكن الإجابة على هذه القضايا على المستوى الوطني وحده. حتى لو كانت الحكومة الفرنسية ستخفض انبعاثاتها من الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري إلى الصفر، حتى لو أصبحت أفضل تلميذ أخضر في العالم، فستكون مساعيها عديمة الجدوى بدون تعاون دولي. سيكون من الضروري التعاون إذا أردنا أن ننجح في تنظيم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية (biotechnologie).

بدون تعاون، لن يصبح من المستحيل إيقاف تنمية العادات البيئية النظيفة فحسب، بل سيجعلنا ذلك أكثر ميلًا للتخلي عن قواعدنا الخاصة. إذا حصلت الصين أو روسيا، على سبيل المثال، على روبوتات مسلحة، فستكون بداية سباق تسلح. قبل خمس سنوات، لم يكن أحد، باستثناء الصين، يفهم قدرة الذكاء الاصطناعي، الذي  من الممكن أن يودي بالإنسانية إلى الإندثار.

*
أنت تشرح أن أزمة الديمقراطية الليبرالية ليست فقط مسألة مؤسسات وعمليات انتخابية، بل تجد جذورًا لها في الدماغ. ماذا تعني بذلك؟

هراري: تفترض الديمقراطية الليبرالية أن دماغنا عبارة عن صندوق أسود مليء برغباتنا وأفكارنا التي نمتلكها وحدنا. إنه نظام يفترض أن الناخب يعرف ما يفعله. نقرّر خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي (Brexit) لأننا نعطي قيمة عالية لشعور الناخب البريطاني. ولا أحد يشكّك في مصداقيّة هذا الشعور. ومع ذلك، تنشأ الأزمة الحالية من حقيقة أن لدينا تقنيات لقرصنة الناس، وليس فقط أجهزة الهاتف أو أجهزة الكمبيوتر المحمول. الثورة هي أنه يمكننا أن فهم رغباتك، مشاعرك وأفكارك ومن ثم نحكم السيطرة عليك. 

الأخبار الملفّفة (fake news) ليست سياسة جديدة؛ الفرق أنه الآن يمكننا تغذية الأفراد منها عبر استهدافهم. إذا كان أحدهم يكره المهاجرين، فنعرض عليه قصة مهاجرين يغتصبون النساء الفرنسيات، سيصدقها بسهولة، حتى لو لم يكن ذلك صحيحًا. الأخبار الملفّقة يتمّ فبركتها لدفع الخطاب العام إلى الإنهيار، ولجرّ الناس إلى التطرّف. 

وفيما يتعلق بمسألة استقبال المهاجرين، هناك حجّة قوية إلى جانب أولئك الذين يدافعون عن الترحيب بهم، كما يوجد حجة مقابلة للذين يعادون استقبالهم - الديمقراطية الليبرالية ترقد بالضبط على إمكانية هذه المناقشة. لكن ما نراه اليوم هو صراع مانيويّ [نسبة إلى عقيدة «المانوية»] بين «الخير» النهائي و «الشر» النهائي، لأن ثمة مجموعات - أحزاب، وكلاء أجانب، أو شركات - تتصرّف في هذا الاتجاه.

*

كيف نخرج من هذا الفخ؟

هراري: بالتأكيد، إن استخدام الشركات للذكاء الاصطناعي وللبيانات الضخمة هو لفهم الناس بشكل أفضل والتلاعب بهم. لكن يمكننا استخدام نفس التقنيات للسماح للناس بفهم بعضهم البعض بشكل أفضل وتطوير مناعتهم. نحن عرضة للخطر اليوم لأننا لا ندرك ضعفنا. ولهذا السبب يجب أن نبدأ بالتخلي عن وهم الإرادة الحرة الكاملة: ما نفكر به ونشعر به يعتمد على العمليات الداخلية لجسمنا ودماغنا الذي لا نعرف عنه شيئا ونحن لا نسيطر عليه.

ما نعتقد أنه أكثر مشاعرنا أصالة يمكن أن يكون نتيجة للتلاعب الخارجي. لا يمكننا الوثوق بأنفسنا كليًا. كان لدينا تعويذة في القرن العشرين: «ثق بنفسك، اتبع قلبك.» لكن قلبك يمكن أن يكون عميلاً روسيًا! هذا لا يعني أنك لا تستطيع أن تثق بأحد. لكن يجب أن ندرك أننا عرضة للتلاعب.

*
من يجب أن يتحكم في قواعد البيانات؟ الدولة أو الشركات؟

هراري: إنه خيار بين شرّين. إذا كانت الحكومة ديمقراطية ولديها كل الضواط والموازين اللازمة، فهي أفضل من الشركات. ولكن إذا كانت الحكومة تعرف كل شيء عنك، فإننا ننزلق بسرعة نحو الديكتاتورية الرقمية. حتى قبل أن تنبعث فكرة مقاومتها في داخلك، ستكون الحكومة على دراية بذلك. تصبح البيانات في غاية الأهمية بحيث أن الشخص الذي يسيطر عليها يمثل الحكومة الحقيقية. إذا كانت شركة أمازون تسيطر على جميع معاملاتنا وسجلاتنا الطبية، فستكون أمازون الحاكم الفعلي.

هل يجب علينا تقسيم خاصية البيانات؟ من الصعب الإجابة بسبب نقص الخبرة في تنظيم هذا المجال. نحن نعرف كيف نفعل مع حقل حيث يوجد محيط وسياج ومدخل: وبالتالي يمكننا أن نقرّر من يدخل ويخرج. لكن يمكن أن يكون هناك ملايين النسخ لسجلّي الطبي. تصبح البيانات في كل مكان ولا مكان في الآن ذاته.

*

ذكرت في كتابك مسألة التعليم. ماذا يجب أن تفعل المدرسة؟ إعداد الشباب لوظائف ليست معروفة بعد، أو تنشأتهم ليصبحوا مواطنين؟

هراري: لا أحد يعرف كيف ستصبح الوظائف بعد ثلاثين سنة. إنه مضيعة للوقت والموارد، التظاهر بإعداد الشباب لمستقبل مجهول. أفضل رهان هو تعليم الأطفال على التغيير. سيتعيّن على الأفراد أن يعيدوا اختراع أنفسهم عدة مرات في حياتهم - العمر المتوقع أطول من ذي قبل، وسوق العمل أكثر تقلبًا.
معظم الحرف الروتينيّة، وليس بالضرورة الجسديّة، سوف تختفي. إن عمل الممرّضة، الذي يتطلّب الكثير من المهارات اليدويّة، مثل حقن الأطفال أو تغيير الضّمادات، يبدو لي أقلّ عرضة للخطر من وظيفة طبيب، يقوم بتحليل البيانات، ويقارن مع الحالات السابقة، باحثًا عن نموذج تمثيلي. هذا بالضبط ما سيقوم به الذكاء الاصطناعي بشكل أفضل.

أما بالنسبة للوظائف الجديدة، فهي أيضًا سوف تتغيّر باستمرار. الذّكاء الاصطناعي سوف يؤدّي إلى سلسلة من الثورات القويّة على نحو متزايد. كل خمس أو عشر سنوات سيكون هناك اضطراب جديد. وهذا يعني أنّ المشكلة الأولى تستوجب إعادة اختراع الذات - ليس إعادة اختراع الهوية المهنية فحسب، بل الهوية العميقة أيضًا. في غضون خمسة عشر عاماً، قد يحصل سائق الشاحنة البالغ من العمر 50 عاماً والذي يفقد وظيفته على فرصة أن يصبح مصمّمًا للعوالم الافتراضية، حتى وإن لم تكن لديه المهارات اللازمة.

تقوم فلسفة التعليم التقليدي على بناء هوية مستقرّة، تعتمد على مهارات يستمرّ استخدامها طوال الحياة. لكن على العكس، يجب أن نفكّر أننا لن نترك النظام التعليمي بعد الآن. في السابق، قمنا ببناء شخصيات كانت بمثابة بيوت من حجر. غدًا، سيكون من الضروري أن تغدو الشخصيات أشبه بالخيام.

*

أنت تستخدم عبارة وحشية: «الطبقة غير المجدية»، عن الملايين من الناس الذين سيفقدون وظائفهم «التقليدية». هل يجب علينا تدريبهم على شيء آخر، أو الكفّ مثلًا عن تنظيم المجتمع حول العمل المدفوع؟ 

هراري: علينا بذل جهد لجعل الناس يتعلّمون ويعيدون ابتكار أنفسهم - ويجب أن يأتي الكثير من هذا الجهد من الدولة. في القرنين التاسع عشر والعشرين، تمّ بناء نظامًا للتعليم لم يكن موجودًا من قبل. الآن، نحتاج إلى نظام جديد للتعليم ولإعادة التعليم - ولكن ليس بمعنى معسكرات العمل الصينية! يستغرق الأمر وقتًا ويستدعي دعمًا عامًا، مع إيرادات جديدة من الضرائب على الروبوتات والسيارات التي تعمل بدون سائق والتي ستدفعها الشركات الكبرى.
لكن الحواجز النفسية قد تكون أعلى من تلك الموجودة في الاقتصاد. لن يتمكّن العديد من الناس من إعادة اختراع أنفسهم. يجب علينا أن نقبل حقيقة أن المزيد والمزيد من الناس، الذين سيعيشون بعد عقود من فقدان وظائفهم، سيكونون هناك، وسيتعيّن علينا تقديم المساعدة المالية لهم. ماذا سيفعلون بوقتهم؟ دعونا نفكّر في ما هو مفيد حقًا. أن تكون أبًا أو أمًا وأن تساهم في مجتمعك، هي أنشطة غير معترف بها، وهذا أمر مؤسف.
وقع المشكلة سيكون أكبر بالنسبة لبلدان مثل بنغلاديش ونيجيريا وفيتنام، التي يعتمد اقتصادها على قوة عاملة رخيصة. لأنه مع الثورة التكنولوجية، يمكننا إعادة المصانع إلى كاليفورنيا وفرنسا. باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، سيتمّ تصنيع القمصان بكلفة أقل بكثير في نيويورك منها في بنغلاديش. ستحلّ خوارزميات الكمبيوتر محل عمّال النسيج.

*
هناك مفارقة اسرائيلية. البلد في ذروة الابتكار ولكن، في الوقت نفسه، يبدو أنّه يتّجه نحو قبلية غير مسبوقة. لماذا؟

هراري: هذه ليست مفارقة. نعرف، بفضل التاريخ، أن التعصّب الديني، القوميّة والقبليّة يمكن أن تتعايش مع الابتكارات التكنولوجيّة. من الشائع وضع أكثر التقنيات تقدّمًا في خدمة الأفكار الأسطوريّة والمشاعر القبليّة. جزء مما يجعل إسرائيل مبتكرة للغاية هو إحساسها بأزمة وجودية دائمة - فكرة أنه إذا لم نبتكر، فسوف يتمّ تدميرنا. هذه العملية أيضًا تعزّز مشاعر القبليّة.
خذ الذكاء الاصطناعي. واحد من أهم المختبرات، في مجال تشكيل الديكتاتورية الرقمية، هو في الضفّة الغربيّة المحتلّة. هناك تجتمع أسوأ سمات القبليّة الإسرائيليّة واليهوديّة - التعصّب الديني - مع التكنولوجيا الأكثر تطوّراً. كيف يمكن التحكّم بفعالية بسكان يبلغ عددهم 2.5 مليون شخص عبر استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والطائرات بدون طيار والكاميرات؟ إسرائيل رائدة في المراقبة: الدولة تقوم بالتجارب ومن ثم تصدّرها إلى جميع أنحاء العالم.

إنّ ما يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية ربما يمهّد لما ستكون عليه حياة المليارات من الناس في جميع أنحاء العالم: سنكون دائماً تحت عين نظام مراقبة متطرّف. في الضفّة الغربيّة، لا يستطيع المرء إجراء مكالمة هاتفيّة، ومقابلة الأصدقاء، والانتقال من الخليل إلى رام الله، دون أن يتمّ تصويره ورصده. يتمّ دمج جميع هذه البيانات في التدّفقات، الخوارزميات، ما يسمى أجهزة الكمبيوتر الذكيّة التي لديها معلومات لا حصر لها عنك حتى تتمكّن من تحديد نماذج تمثليّة. نتعلّم كيفية التعرّف على الأنماط النموذجيّة للسلوك البشري. لا حاجة بعد الآن لانتظار أن يكتب أحدهم على الفيسبوك: «أريد أن أقتل إسرائيليًا.» 

هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الاحتلال الإسرائيلي متطوراً وفعّالاً. نحن بحاجة إلى عدد أقلّ من الجنود على الأرض. هناك جانب إيجابي: يمكننا محاربة الإرهاب بسهولة أكبر وتجنب الوحشيّة المتطرّفة التي يمثّلها فيضان الجنود المنتشرين على الأرض. لكن هناك أيضاً جانب سلبي: الإسرائيليون يطوّرون أساليب معقّدة بشكل متزايد للسيطرة على ملايين الناس، ومن ثم هم يصدّرونها إلى جميع أنحاء العالم. جميع أنواع الأنظمة تعرف أن إسرائيل توجد في المقدّمة في هذا المجال.


ترجمة ابراهيم رشيد بيطار