«عرّافة اسطنبول»، هي رواية «أسطوريّة» بالمعنى المجازي، يروي فيها الكاتب مايكل دايفيد لوكاس قصّة فتاة تولد يتيمة الأمّ، وطيور الهدهد تحوم حولها مثل الملكة بلقيس في مفهوم الوصف وليس التحديد، والمكان مدينة كونستنانتسا على البحر الأسود والزمان عام 1877.
 

يُضطر أبوها للزواج من شقيقة زوجته حتى تهتمّ بالطفلة، التي تتجلّى مواهبها وهي في الرابعة من عمرها. ولكنّها تحاول قدر الإمكان أن تحجبها عن الناس، لأنّها يهودية، خوفاً عليها من أن يتّهموها بالسحر والتنجيم، ويقومون بحرقها حيّة كما فعلوا بغيرها.

تفتُّح باكر

تتفتّح مواهب الطفلة باكراً حيث تنهل المعرفة وعلم الحساب من الكتاب وهي لم تتخطَّ الثامنة من عمرها، وتقوم بمرافقة أبيها دون أن يعرف أوّلاً، وقد اختبأت في صندوق الملابس على متن سفينة متّجهة إلى اسطنبول.
تبدو لها العاصمة العثمانية التي ترفل بالمجد وعزّ الملوك مثل الحلم، وهناك حيث تحاك المكائد وتتلهّف النفوس إلى العرش، تجد نفسها تحتلّ صدارة مرتبة هامة فيها، حيث يُعجب السلطان عبد الحميد الثاني بذكائها، وهو الذي يهاب تلك الظلال القانية للأعداء من حوله، فتصبح مشورتها زاده اليومي.

تاريخيّة غير أسطوريّة

لا نستطيع أن ننسب تلك الرواية إلى عالم الأساطير، لأنّها بمفهوم الكاتب كانت تاريخية بامتياز، ولا نجسر أن نحكم عليها بأنّها أخذت طابع الترقّب والتشويق والإنصات المفعم بالإثارة، لأنّ التذوّق المناخي للرواية عادة ما يبدأ في عوامل التمييز البصري والرؤيا المشهدية والتنظيم السردي والتحليل الوصفي، وكلّ تلك العناصر كانت متكلّفة وجافّة من بداية الرواية حتى تكاد تدفع القارئ نحو عدم الوصول إلى النهاية.

لقد رسّخ سقراط وأرسطو وأفلاطون رياداتهم في علم الفلسفة الضوئية، أيّ التي تتخطى عالم الوقت والزمن، ولكنّ زمام الساعة أُفلت من يد الكاتب، فتارة نخال ونحن نقرأ روايته أنّنا نعيش في العصر الحديث تماماً كأيامنا هذه، وتارة أخرى يأخذنا إلى عالم القصور والملوك والحلي والمؤامرات والدسائس والمكر ونساء السلاطين.

والنقد عادة لا يكون بهدف التنويه أو التعقيب بل التصويب، وفي هذه الرواية لا يوجد من التقنيات المتينة لغربلتها وترميم ثغراتها، بل كانت الحبكة هزيلة وضعيفة والمعنى العامّ مبهماً ولا يفي بحاجة الوعاء الخاوي للأدب المتعطّش للتجدّد.

لعبة فولكلورية

التسلّل خارج أو داخل التاريخ بمفهوم الكاتب هو بمثابة لعبة فولكلورية طريّة الملامح، وهذا ما جعله يفقد نول العاطفة في روايته، فلم يصوّر أبطاله وخصائصهم النفسية بالحرارة التي يستحقها تاريخهم وبيئتهم الماضية وظلالها الحاسرة.

البُنى السردية تتمايلُ كأغصان البان المنحنية للريح لا يتخللها نبش لذهنية المتلقي أو الاستيفاء من علم الجمال، والخلفية الجمالية للرواية مخضّبة بالألوان المحترقة التي لا تنتمي للون البعد الإمتاعي للمبصر.

يحاول الكاتب أن يضيف نكهة فلسفية «الإستطيقا» وهي فلسفة خاصة تعنى بالتحليل النقدي للطبيعة والجمال، ولكنّه يخفق مع التباين الواضح في نسج الأحداث وحقن الحبكة بتفاصيل لا جدوى منها ولا طائل. والبنية الهيكلية للحكاية لا تتفاعل فيها خيالات منصهرة بالواقع، فطيور الهدهد رمزٌ للحظّ والتفاؤل والمستقبل السعيد وقرب الوصول إلى برّ الأمان، والهروب في حقيبة ملابس هو أمرٌ غير وارد لطفلة صغيرة في الثامنة من عمرها.

طرق باب التاريخ

أراد لوكاس أن يطرق باب التاريخ ولكنّه فعل بصدى أجوف وتلعثم في التاريخ وصعوبة التأقلم فيه، فهو لم يتقمّص شخصيات روايته ولذا جاءت ضعيفة ومستحيلة وعازفة عن الولوج إلى عالم الرواية الحقيقي وتداعياته وأسبابه وركائزه وهمومه وتغطيته للواقع المرير.

لوكاس كاتبٌ ركّز جام اهتمامه على التاريخ والأسطورة، فجاءت كتابته مزيجاً من الاثنين، دون أن تضيف ما توقّعناه في بداية الرواية من مغيّر أساسي ومحوّل للأحداث الحقيقية فيها.