لم تعد مشاهد الباصات المحمّلة بالنازحين السوريين وهي تسلك طريق العودة إلى سوريا عبر بوابة المصنع، مفاجئة أو مستغربة من اللبنانيين. صارت جزءاً من يومياتهم. قوافل تعبر بشكل دوري تقريباً الحدود اللبنانية السورية لتضع حداً لرحلة نزوح مأساوية صار عمرها أكثر من 7 سنوات. ومع ذلك، فإنّ الأرقام التي سجّلتها البوّابات الحدودية لأعداد المغادرين، ليست سوى نقطة في بحر الوجود السوري في لبنان.
 

تحاول المديرية العامة للأمن العام، ومن بعدها «حزب الله» في الترتيب الزمني، إقناع الراغبين بالعودة إلى بلداتهم وقراهم، على قاعدة أنّ المسألة ممكنة ومتاحة، ويمكن تسوية بعض الأوضاع القانونية لتسهيل المهمة. ولكن المقتنعين لا يزالون يُعَدّون على الأصابع.

طبعاً، المسألة ليست بهذه السهولة، وثمة تعقيدات كثيرة تواجهها، ليس أقلّها مدى تجاوب السلطات السورية مع رحلات العودة، والوقت الذي تستغرقه الأجهزة المعنية على الجانب السوري للتدقيق. ويبقى كل هذا قابلاً للبحث والمعالجة بحضور التفاهم السياسي. وهنا السرّ.

أوحى المسؤولون الروس، حين أعلنوا عن مبادرتهم لتسهيل عودة أكثر من 800 ألف نازح سوري، أنّ المظلّة الدولية باتت جاهزة لتَقي رحلات العودة شر الاعتراض. والمقصود بالمظلة الدولية، الموافقة الأميركية على الخطوة، أو أقله عدم ممانعة واشنطن، خصوصاً أنّ رحلات الإياب كانت بضوء أخضر دولي ساهم في رفع منسوبه، تَلقُف اللبنانيين للتشظّي السكاني في سوريا، كلٌ لاعتباراته.

ولهذا يقول أحد المطلعين على الملف، إنّ الروس لم يبالغوا في كلامهم حين أبلغوا اللبنانيين عدم ممانعة الإدارة الأميركية في إطلاق مسيرة العودة الى سوريا، لا بل كانوا جادّين في قدرتهم على تأمين هذه المظلة، مع العلم أنّ المسؤول عينه يرى أنّ مواقف الإدارة الأميركية تخضع لبورصة مصالحها، وقد تتغير بين ليلة وضحاها، خصوصاً أنّ ملف النازحين ورقة ضغط لا يُستهان بها لطالما حاولت واشنطن استثمارها في أكثر من محطة واستحقاق.

ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ تأمين عودة مئات الآلاف من السوريين قد يحصل بكسبة زرّ، أو عبر باصات روسية جُهّزت لهذا الغرض. ومع هذا يؤكد المسؤول أنّ الأحداث الميدانيّة تثبت، بما لا يقبل الشك، أنّ المبادرة معلّقة، أو مجمّدة.

ويرى أنّ السبب الرئيس وراء هذا التجميد يكمن في الاعتبارات السياسية، حيث تطالب الحكومة السورية، جارتها اللبنانية، بتنسيق مباشر معها، لتسهيل عمليات التدقيق وإتاحة عودة أعداد أكبر من النازحين إلى بلادهم.

ويلفت إلى أنّ تعثّر قيام حكومة جديدة يلقي بثقله على هذا الملف ويحول دون تسريع خطواته أكثر، مشيراً إلى أنّ ما تقوم به المديرية العامة للأمن العام و»حزب الله» لا يحلّ مكان السلطات الرسمية، لا بل إنّ مجهودهما أقرب إلى خطوات تشجيعية لخلق مناخ مؤاتٍ للعودة، ولكن لا بد للدولة أن تأخذ مكانها في هذا الملف، وتحديداً الحكومة.

ولهذا فإنّ الاعتقاد السائد لدى المسؤول ذاته هو أنه فور ولادة الحكومة، فإنّ موسكو قد تكثّف جهودها مع السلطات اللبنانية لتسريع وتيرة العودة من خلال رفع منسوب التنسيق مع الحكومة السورية.

وباستثناء لجنة التنسيق الروسية - اللبنانية التي جرى تأليفها، لا تزال المبادرة الروسية في الإطار النظري. وتتألف لجنة التنسيق الروسية - اللبنانية من ممثل عن رئيس الحكومة هو المستشار جورج شعبان، وممثل عن وزارة الخارجية هو النائب السابق أمل أبو زيد، وممثل عن وزارة الداخلية هو مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، إضافة إلى ممثل عن وزارة الدفاع.
لكن مع ذلك، يقول أحد المعنيين بالملف، إنّ المبادرة الروسية هي وحدها المبادرة الجديّة التي طرحت في هذا الشأن، وهي تتمتع بما يكفي من الثقل والحصانة لكي تكمل مسارها، وان يعتريها الكثير من العقبات، لعل أهمّها ملف إعادة إعمار سوريا الذي يحتاج إلى صندوق تمويل ضخم لكي تصبح ظروف العودة متكاملة.

ويشير إلى أنّ امتناع الدول الأوروبية والولايات المتحدة عن تمويل الصندوق، هي التي أخّرت انطلاقة قطار الرجعة كونه سيكون من الصعب جداً إعادة الآلاف من النازحين إلى مناطق مهدّمة بالكامل أو نسبيّاً. ولهذا أبلغ الروس المسؤولين اللبنانيين بأنه سيُستَعان بتمويل صيني - إيراني ومن جهات أخرى غير الجهات الأوروبية والأميركية لتسهيل ملف العودة.

ويؤكد أنّ ملف تطبيع العلاقة مع سوريا لم يكن عائقاً أمام تسريع خطوات العودة، إذ انّ المسؤولين الروس قالوا بوضوح أمام مضيفيهم اللبنانيين إنّ موسكو لن تضغط على لبنان لكي يرفع من منسوب علاقته مع سوريا، وهي تحترم الخصوصية اللبنانية في هذا الشأن.

ولهذا ستتولى موسكو التنسيق المباشر مع دمشق، مع العلم أنّ روسيا تضغط إقليمياً لتطبيع علاقة سوريا مع محيطها، ولكنها حريصة على مساعدة لبنان للتخفيف من أعباء النزوح مع تفادي تحويل ملف التطبيع الى ملف خلافي داخلي.