إعتادت الحياة السياسية اللبنانية، لا بل النظام السياسي اللبناني، على الغرق دائماً في مستنقعات الأزمات الكبرى. صحيح أنّ دستور»الطائف» يسمح بالدخول في أزمات حكم في كلّ مرّة، إلّا أنّه ومنذ العام 2005 تاريخ خروج الجيش السوري من لبنان بات وقع الأزمات متلاحقاً لسببين أساسيين: الأول، طبيعة «اتّفاق الطائف» الذي أضحى دستوراً للبلاد، كونه صيغ على أساس عناوين عريضة افتقدت النصوص التفصيلية والآليات، ما يجعل الصدام وارداً في كلّ لحظة. والثاني، سعي كلّ فريق إلى ملء الفراغ الذي خلّفه خروج سوريا من لبنان في محاولة لاقتطاع مساحة نفوذ واسعة داخل السلطة، ومن الطبيعي أن يسعى الأفرقاء الآخرون إلى مواجهة ذلك.
 

وهذا «الطمع» معطوفاً على النزاع الاقليمي الكبير أنتج انقسام 8 و14 آذار، وبالتالي سلسلة الأزمات والنزاعات حول السلطة.

وفي الأزمة الحكومية الحالية شيء من هذا القبيل: نزاع حادّ حول التوازنات داخل الحكومة معطوفة على حسابات استحقاق رئاسة الجمهورية ومتناغمة مع الصورة الإقليمية بعد خريطة المجلس النيابي إثر الانتخابات النيابية المثيرة. لكن الجديد في الأزمة الحالية هو انسداد الأفق بحيث انّ مختلف الأفرقاء سلّموا بعدم وجود حلول وبأنّ الأزمة مفتوحة ومن الممكن أن تستمرّ الى فترة مفتوحة والى تواريخ بعيدة وربما أبعد من البعيد. وبخلاف الأخبار المتداولة في وسائل الإعلام تبدو الاوساط الديبلوماسية الفرنسية مندهشة من الترويج الحاصل لمبادرة فرنسية. بالتأكيد فرنسا تريد ولادة حكومية أمس قبل اليوم، وبالتأكيد هنالك حركة للسفير الفرنسي في لبنان، ولكنّ الحركة شيء والمبادرة شيء آخر. وهذا ما دفع أحد الظرفاء الى التعليق قائلاً «انّ السفارة الفرنسية تتابع وسائل الاعلام اللبنانية لتكتشف تفاصيل مبادرتها».

قبل ذلك كان الرئيس سعد الحريري قد حسم موقفه حيال احتمال تنفيذه انعطافة في الملف الحكومي. فالخطوة تبدو اكثر صعوبة هذه المرة وسط حرص عربي ودولي الى حدّ ما بمحاذرة الامعان في كسر التوازنات اللبنانية الداخلية بعد الخلل في توازنات المجلس النيابي . وهنالك سبب آخر لدى الحريري يجعله غير راغب في ان يتزحزح من مكانه وهو المتعلّق بفقدان «الكيمياء» مجدداً بينه وبين الوزير جبران باسيل.

ففي الفترة التي مهّدت لولادة التسوية الرئاسية شهد التناغم بين الحريري وباسيل تحسّناً مضطرداً ساهم في جانب منه نادر الحريري حين كان يشغل موقع مدير مكتب ابن خاله، وشكّل التفاهم الحكومي بين الرجلين حول معظم الملفات المطروحة رابطاً لتحالف قوي تمّت ترجمته لاحقاً بتفاهمات انتخابية. وبلغت العلاقة ذروتها بعد حادثة الحريري في السعودية. يومها كان الحريري يردّد انّ العلاقة مع باسيل تريحه كثيراً، وفي المقابل كان باسيل يمسك بالحريري بيده وهو يبدو مطمئناً الى العلاقة مع «حزب الله» من خلال رئيس الجمهورية. في اختصار كانت حسابات الاستحقاق الرئاسي شبه مضمونة، لكنّ الانتخابات النيابية غيّرت كثيراً من الحسابات.

العارفون يؤكّدون أنّ «الكيمياء» لم تعد موجودة بين الحريري وباسيل، فالحريري لا يتورّع في مجالسه الضيقة عن وصف باسيل بـ»الأمبراطور»، فيما يقول الفريق الآخر عن الحريري: «شو بدو الأفندي اليوم؟»

في المحصّلة لا يبدو أنّ هناك مخارج لأزمة تأليف الحكومة. البعض ممن يراقب الساحة الاقليمية راهن على انّ انفراج الازمة الحكومية في العراق سيسمح باختراق حكومي في لبنان. لكن رهانه سقط على الأقلّ حتى الآن. ففي العراق حصل تقاطع أميركي ـ إيرانيّ سمح بانتاج توافق سيمهّد الطريق أمام تأليف الحكومة. لكن هذا لا يعني بالضرورة فتح أبواب التفاوض لتشمل الساحة اللبنانية، إضافة الى انّ الحسابات الداخلية تبدو صعبة.

وعلى رغم عدم الاتفاق بعد على الاحجام فإنّ المعارك مفتوحة على الحقائب فمثلاً آخر المعارك تدور حول حقيبة الاشغال وسط ظهور مفاجئ لسلسلة من الازمات في مطار بيروت. ويهمس احد السفراء الاوروبيين المتابعين بدقة للواقع اللبناني أنّ مشروع توسيع مطار بيروت والتي تبلغ كلفة تلزيماته 800 مليون دولار هي السبب الحقيقي للنزاع الحاصل حول حقيبة وزارة الاشغال.

كل هذه التعقيدات الحكومية تؤكد الانطباع السائد أنّ أفق الحل مسدود. وهذا ما يدفع للتساؤل: كيف ستولد حكومة اذاً؟
أوساط ديبلوماسية اوروبية توافق الرأي على انّ سبل إيجاد تسوية حكومية لا تبدو موجودة، ولكن الحكومة ستولد خلال الاشهر المقبلة تحت ضغط الشارع. وتضيف هذه الاوساط انّ استحقاقات وأزمات قاسية وصعبة باتت على الابواب وفي طليعتها الواقع الاقتصادي الخطير.
وتعتقد الاوساط نفسها انّ سلسلة ازمات ستنتج عن الواقع الاقتصادي وستدفع ربما الى تحريك الشارع ما قد يلزم الجميع بتدوير الزوايا والتراجع قليلاً وانجاز حكومة سريعة رغماً عنهم.

وفي الآونة الأخيرة كادت الامور تذهب الى مواجهة مسيحية ـ سنية تحت عنوان الصلاحيات بعدما اندفع فيها البعض بكثير من التهور والسطحية. لكن لاحقاً سُحِب الملف من النزاع.

ومن ثمّ جاء دور المواجهة المسيحية ـ الدرزية والتي كانت ستؤدي الى كارثة في الجبل لولا تدارك طرفي النزاع وسحب فتيل التفجير. والمشكلة ان «الشوارع» معبأة وان اللعب بالنار يؤدي الى الانفجار حتما، على رغم ان هنالك من يعتقد بأنّ الاشتباك الطائفي مفيد.

خلال الأيام المقبلة ستتراجع أخبار الحكومة الى المرتبة الثانية في وسائل الاعلام لتحتلّ مسألة إطلاق اسم مصطفى بدر الدين على احد شوارع الغبيري. ذلك انّ تحضيرات تجري لرفع منسوب الاعتراض لدى تيار «المستقبل»، إضافة الى رفع يافطات بعضها سيحمل اسم صدام حسين.لكن «حزب الله» مدرك لوجوب عدم الانزلاق الى مواجهة في هذا الاطار وهو حتى الآن يبدو ملتزماً ببقاء سعد الحريري في سدّة الرئاسة الثالثة.

وقبل سفره الى لاهاي التقى الحريري مساعد الأمين العام لـ»حزب الله» الحاج حسين خليل وكان الاجتماع ايجابياً الى آخر درجة. ومن لاهاي جاءت تصريحات الحريري متناغمة مع هذه الايجابية.

وفي الداخل اللبناني لا يبدو «حزب الله» مستعداً لفتح ايّ نقاش في مجلس النواب حول سحب تكليف الحريري حسب ما يقترح البعض بشيء من الالحاح. وهو يحرص على الوقوف في المربع الذي اختاره. اي لا يقف متفرجاً وفي الوقت نفسه لا يبذل جهوداً كبيرة لإنهاء المشكلة الحكومية، وهو لا يريد ذلك لأنّه لا يريد إطلاق عنان التحليلات للبعض بأن تدخله هو إما بسبب خوفه من المحكمة الدولية أو لأنّه يمارس دور الحزب الحاكم. وهو ما يعني ان صدام الطوائف في الشارع لن يحصل، لكنّ انفجار الشارع تحت وطأة الازمات الاقتصادية وافلاس المؤسسات واقفالها فمسألة أخرى وهو ما قد يدفع الجميع الى تعديل حساباته.