هناك مَن يعتقد أنه لم يعد مهمّاً شكلُ الحكومة ولا كيفية توزيع الحصص فيها. فالأجواء التي تتحدّث عن تأجيل البحث بتشكيلها لم تعد لها أيّ علاقة بهذه المعايير، وإنّ المشكلة لم تعد تتّصل بحقيبة بالزايد أو بالناقص. والأخطر عندما يتحدث البعض عن معادلة أخرى يُطرح فيها السؤال: لماذا لا يريدون حكومة الآن؟ وهل إنّ العجز شامل؟ وما هو المنتظر؟
 

في الأروقة السياسية الناشطة على خطّ تشكيل الحكومة والتي تزين مواقف الأطراف منها بـ «ميزان الجوهرجي»، بحثٌ جدّي وعميق عن الأسباب التي تدفع الى التريّث في موضوع تشكيلها. وهو اعتقاد بدأ ينمو بالتزامن مع تكوّن قناعة لدى البعض منهم، بأنّ المسالة لم تعد تتصل بهوية نائب رئيس الحكومة ومن حصة مَن سيكون، كما بالنسبة الى استئثار الحزب الإشتراكي بالحقائب الدرزية ومسالة تمثيل «سنّة 8 آذار» ولا بهوية وزير العدل، ولمَن ستكون حقيبة الصحة لـ«حزب الله» أو أيّ طرف آخر ولا تسقط من اللائحة حقيبة الأشغال وغيرها من العقد المستعصية التي يتحدثون عنها لإبعاد التهمة بالتقصير أو الحديث عن الأسباب الخارجية التي تحول دون ولادة التشكيلة في إطار السباق الى السلطة.

ويترجم أصحاب هذه القناعة - التي لم يعد يرقى اليها الشك لدى البعض منهم - الى بعض الوقائع ومنها: 

- سقوط جميع المهل التي حدّدها رئيس الجمهورية في اوقات سابقة الواحدة تلوَ الأخرى دون أن يعبّرَ احد عن الأسف. ومعها كل الوسائل الدستورية والسياسية التي استُحضرت لدفع الرئيس المكلّف للإسراع بتشكيل الحكومة واستعجال ولادتها بعد تعثّر مشاريع سحب التكليف لعدم دستوريّتها.

- تراجع التهويل بالمخاطر المحدقة بالوضعين الإقتصادي والمالي الى الحدود الدنيا. بعدما بدا أنّ بعض اصحابها من الخبراء الماليين يدينون أنفسهم اليوم قبل أن يدينهم أحدٌ آخر. ويقفون أمام المرآة للحديث عن وضع اقتصادي ممسوك ومالي ونقدي معزّز بالإحتياطات التي يمتلكها مصرف لبنان لمواجهة كل مَن تسوّل له نفسه التلاعب بالليرة اللبنانية وبالموازين الإقتصادية، ويمنّنون اللبنانيبن بانتعاش قريب لم تشهده البلاد من قبل رغم أنّ الإنكماش المالي قد يتحوّل ظاهرةً دولية قد لا ينجو منها لبنان في وقت ليس ببعيد. 

- إستبعاد أن تشمل العقوبات الأميركية المالية المقبلة لبنان. فرغم اعتراف أحد كبار المسؤولين في لبنان بأنّ الولايات المتحدة الأميركية التي لم تكسب أيَّ حرب خاضتها أو أيّ مواجهة قادتها في العالم من اليمن الى العراق وسوريا بعد أوكرانيا وكوريا الشمالية، تستعدّ لإعادة التحكّم بهذه الدول من باب اقتصاداتها وقوة دولارها الذي اهتزّت وستهتزّ له مختلف العملات الأجنبية من الصين الى روسيا وإيران وتركيا، وصولاً الى العملة الاوروبية الموحّدة، نتيجة هذه العقوبات التي لم تفرّق في انعكاساتها بين أصدقاء واشنطن وأعدائها. وهو أمر سينعكس على لبنان فهو من هذا العالم الذي يترقب انعكاسات هذه العقوبات على دول هي على تماس مباشر مع قوى لبنانية وبالوضع الإقتصادي.

- تسخيف التهديد بالموضوع الأمني من البوابة السورية. فبعد الربط بين الوضع في لبنان وما تشهده سوريا والذي يدفع الى تشكيل الحكومة الأمس قبل اليوم نظراً للتاثيرات السلبية للحرب المتوقعة في إدلب، والتي رُسمت لها سيناريوهات لا تُبعد لبنان عن مسرحها إن على المستوى الأمني أو لجهة ازدياد نسبة النازحين السوريين اليه في ظلّ الإعتقاد بأنها ستكون حرباً شاملة تطال صواريخها وقذائفها محيط إدلب من الساحل السوري وريف حمص الى مناطق اخرى، ستدفع بعودة النازحين الى لبنان قبل أن ينجح اللبنانيون بإعادة عدد منهم ولو بحجم مدينة أو قرية تتّسع لعشرة آلاف مواطن سوري.

- التراجع عن التهويل بعملية عسكرية إسرائيلية ضد لبنان نتيجة «سقوطه في الفلك الإيراني» لعدم قدرة إسرائيل على «المغامرة»، الى درجة التخفيف من مخاطر التهديدات التي تُرجمت بالمناورات التي تحاكي حرباً على لبنان لن تميّز فيها إسرائيل بين الجيش و»حزب الله» بسبب ما تعتبره تل ابيب «غضَّ نظرٍ رسميّاً» عن إنشاء مصانع الصواريخ ونقل الأسلحة الى لبنان بما يهدّد بكسر التوازن.

وانطلاقاً من سلسلة الملاحظات هذه، ينطلق اصحاب هذه النظرية من قاعدة تقود حتماً الى اتّهام جميع أطراف الصراع بالفشل وبالتقصير في تشكيل الحكومة. فلا تعفي أيّاً من أصحاب المطالب المتضاربة من المسؤولية في تاخير ولادتها ولو جاءت قيصرية. لكنهم في الوقت نفسه لا يجمعون على حجة واحدة تبرر هذا الإتهام ويختلفون حول عدد من القراءات للأسباب الحقيقية قياساً على حجم الإنقسام بين مؤيّدي «تشكيلة الحريري» و»ملاحظات رئيس الجمهورية» وفق المعادلتين التاليتين:

الفريق الأول يخشى مغامرة تخاض ضد الرئيس المكلف وهو ينظر الى طريقة مقاربة التشكيلة الحكومية التي طرحها بالكثير من القلق. فقول العهد بأنه يمكنه أن ينتظر الى ما لا نهاية الى أن يأتيه الرئيس المكلّف بتشكيلة تكرّس «ملاحظاته الصعبة» تزامناً مع التودّد للنظام السوري تحت شعار تسهيل فتح معبر نصيب، قد يشكّل رسالةً قوية الى الحريري لإحراجه وإخراجه من المعادلة الحكومية.

أما الفريق الثاني فهو ينظر الى تريّث رئيس الحكومة على أنه تنفيذ لقرار خارجي سعودي وصولاً الى اعتباره «محتجزاً للمرة الثانية» ولكن في بيروت وليس في «الرياض» لمنعه من تشكيل الحكومة.

وما بين الرأيين ليس هناك ما هو ثابت، ولا يقبل أيّ جدل بأنّ البلد سيبقى بلا حكومة الى مدى غير منظور وأنّ ربط مواعيد الولادة باستحقاقات إقليمية ودولية لا معنى له على الإطلاق فليس هناك مَن يعترف بالكثير من الحقائق، وكثر مَن يمتلكون الموهبة والقدرة على «اللعب على حدّ السكين» ولكن الى متى؟!