جمع مؤتمر طهران الأخير دولاً ثلاثاً، هي إيران وروسيا وتركيا، باتت معنية بشكل مباشر بالأزمة السورية، بل أصبحت جزءاً منها ، بحيث يكون لأي ترتيب أو حل للأزمة أثاره وتداعياته على مصالح هذه الدول ونفوذها وحتى أمنها الاستراتيجي.
لم يخرج المؤتمر ببيان ختامي ولم يرشح عنه رؤية جامعة أو موقف موحد أو تفاهمات أو برنامج مشترك تتوزع بداخله الأدوار وتتكامل المهام والأنشطة تمهيداً لحل نهائي.  كان المؤتمر أقرب إلى منصة لإلقاء بيانات حربية وسياسية وحتى أيديولوجية، تعلن فيها كل دولة عن مخاوفها وقلقها وتصوراتها ومواقفها وبرنامجها السياسي وخطتها الحربية المعتمدة في سوريا، مع قطع النظر عن وجهة الدولتين الآخريين، ومع تجاهل كامل للاعبين والفاعلين الآخرين في الساحة السورية، مثل الولايات المتحدة ودول الخليج وإسرائيل وحتى الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن قوة حضور الأخير أخف فاعلية من الباقين.


كان مؤتمر طهران مؤتمر السقوف العليا، والطموحات القصوى، والاستعراض الإعلامي المضخم الذي لا ينقل بشفافية حقيقة دور الدول الثلاث بالقياس إلى دور عميق وراسخ لدول أخرى داخل سوريا. التقى الأطراف الثلاثة لا ليتفاهموا ولا ليقترحوا حلاً منطقياً لمستقبل سوريا، بقدر ما عاش جميعهم حماوة الحاضر ونشوة القوة ورغبة الغلبة. كل طرف قال كلمته ومشى، كأنه كان يخاطب جمهوره الخاص أو يتحدث إلى نفسه.  طرح كل منهم صورة سوريا التي يريد ومستقبلها الذي يرغب والحل الذي يرتئيه والمخرج الذي يستجيب لضرورات دولته ونظامه وسلطته وحتى موقعه الشخصي.


أصرت روسيا على إنهاء مشهد إدلب لأن بقاءها الحالي بيد مجموعة قوى مسلحة بأجندات ومرجعيات متعددة، يعني أن مهمة سوريا لم تنجز وما تزال منتقصة بل يظهرها بموقف العاجز. وهو أمر يضعف دور روسيا في أي توظيف أو ابتزاز سياسي تمارسه ضد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويحول دون جني الثمار السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لوجودها في سوريا، الذي يبدو أنه سيصبح وجوداً دائماً.  لذلك نجد مبالغة من الروس في استعراض العضلات العسكرية في البحر المتوسط، وبدوا كأنهم المرجعيىة الحصرية التي تقرر ساعة الصفر الحاسمة في بدء الهجوم على إدلب.


أما الأتراك فقد بدوا الطرف القلق والمتضرر الأكبر، إن لجهة النزوح البشري الكثيف باتجاه تركيا الذي سيتسببه الهجوم الروسي العسكري على إدلب، وإن لجهة تحجيم دور تركيا في سوريا الناتج عن: القضاء على الفصائل العسكرية التي تمولها تركيا وتسلحها، وعن تقلص مناطق انتشارها داخل سوريا، وعن العودة المظفرة للنظام السوري المناقض بالكامل لبنية الدولة التركية الحديثة من جهة أخرى، وعن علاقة تركيا المتوترة مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي التي تسببت بعزلة دولية لحكم أردوغان وحضوراً مكشوف الظهر له في سوريا. لذلك كان كلام أردوغان في مؤتمر طهران دفاعياً حين تحدث عن تركيا المهددة في أمنها واقتصادها جراء الحملة على إدلب، فظهر بمثابة الشريك الخاسر الذي دعي إلى طهران ليحشر في الزاوية ويرغم على تقديم تنازلات نوعية تطال عمق حضور تركيا داخل سوريا في حال رضي الروس بالتعاون مع الأتراك لإنهاء قضية إدلب سلمياً.


أما موقف إيران الذي عبر عنه الرئيس روحاني فقد كان خارج سياق موضوع المؤتمر الذي هو إدلب.  بمعنى أن نقطة ارتكاز خطاب روحاني كانت حول مشروعية الحضور الإيراني في سوريا ولم تعد حول محاربة الإرهاب الذي كان صلب التعبئة الإيرانية للقتال في سوريا. هو حضور حظي بتجاهل أمريكي زمن أوباما لإغراء الإيرانيين بتوقيع الاتفاق النووي. إلا أن التحريك الأمريكي-الإسرائيلي القوي والجدي لملف الوجود الإيراني داخل سوريا، وتتابع الضربات الإسرائيلية الموجعة للتجمعات العسكرية الإيرانية، والتسامح الروسي إزاء الضغط الأمريكي لإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، بل شهدنا ضغطاً روسيا داخلياً لتقييد الانتشار الإيراني ليكون تحت سقف النفوذ الروسي،كل ذلك أفقد إدلب أن تكون أولوية ومقصداً ملحاً للإيرانيين، وتحولت الأولوية نحو الاحتفاظ بشرعية وجود ولو محدودة لهم في سوريا، لكي يحفظوا ماء وجههم أمام العالم، ويتجنبوا هزيمة استراتيجية تضعف قوة صمودهم ضد الحصار الأمريكي لهم، وأخيراً يوفروا معنى مُقنعاً لتضحياتهم البشرية وخسائرهم المالية الضخمة طوال الأعوام السبعة.


بدأ في سوريا مرحلة Aftermath الحرب السورية، أي مرحلة ترتيبات ما بعد الحرب، التي تجلت بالتنافس الدولي على أحجام الحضور وشدته داخل النظام السوري.  تأكد بعد الحرب نجاة النظام من السقوط، لكن تأكد بدرجة أقوى أن خريطة اللاعبين قبل الثورة السورية لم يعودوا أنفسهم بعد الثورة، وأن إعمار سوريا المدمرة يحتاج إلى أكثر من نداءات الجهاد والسجال الخطابي وتعقيد الترسانة العسكرية والكفاءة القتالية وانتشاءات النصر والغلبة.
حين ينكشف هول المأساة الإنسانية، ويظهر حجم الخسارة المادية والطبيعية والاقتصادية في سوريا، وتتبين درجات السقوط الأخلاقي غير المسبوقة،  وينجلي عمق الانقسام المجتمعي بل التشظي الاجتماعي، سيدرك الأطراف المتحاربون عندها أن الجميع قد خسر الحرب.