يكفي لكي أفقد لذة استعادة مواطنتي على سبيل التعريف أنني حين أقول أنا عراقي، يُقال لي من أي طائفة أنت؟
 

هل خُلقت الأوطان للذكرى؟ لقد كذبنا على أنفسنا حين صدقنا الكذبة اللئيمة التي تقول “بلادي وإن جارت عليّ عزيزة”.

كان هناك قدر هائل من السذاجة يقابله قدر عظيم من الخداع. بالتأكيد أن هناك جهات مستفيدة من تلك المعادلة العبثية المضللة.

في قمة اضطراب تلك المعادلة يصل المرء إلى درجة من اليأس تدفعه إلى الهروب حاملا معه حطام شبابه. هو ما تبقى لديه من وطنه.

خدعنا أنفسنا حين توهمنا أن الوطن هو المكان الذي ولدنا وترعرعنا فيه ولنا فيه أهل وأحبة وأصدقاء وذكريات. لقد صنعنا أسطورة من تراب.

في حقيقته فإن الوطن هو اختراع له صفة قانونية. هو مفهوم تجريدي لا يتحقق عمليا إلا من خلال الحصانة القانونية لمفهوم المواطن. شعور المواطنة هو الأساس الذي يكفل وجود وطن. من غير ذلك الشعور فلا شيء يؤكد أن الوطن قابل للتحقق.

بالنسبة لي فقد كانت مواطنتي مؤجلة دائما. وهو ما يشير إلى ارتباك صلتي بالعراق باعتباره وطنا. كان ذلك الوطن مؤجلا هو الآخر. وهي كما أرى حال الكثيرين من أبناء العالم العربي. كان مفهوم الوطن قد اتخذ معاني بدائية ارتبطت بمكان الولادة والعيش، أكثر من ارتباطها بالواجبات والحقوق في سياق قانوني.

فجأة يكتشف المرء أنه وقع ضحية الأداء الصاغر لواجبات، هي أكبر من قدرة الإنسان العادي على القيام بها وفي المقابل فإن كل ما يحيط به يؤكد له إنه إنسان من غير حقوق. فكرامته وحريته واختلافه وسواها من شروط الوضع البشري السوي ليست متاحة بما يجعل حياته الشخصية مصانة.

كان هناك دائما ما يقف بين المرء وممارسة حقه في العيش الحر الكريم.

الدولة والنظام والحزب والوضع الأمني والشعارات والمنطلقات النظرية والأهداف السياسية غير المنظورة والمؤامرات الخارجية والأعداء الواقعيون والوهميون والحروب وقانون الطوارئ، كلها كانت تقف حائلا دون أن يتم الاعتراف بحقوق المواطنة.

يقضي العربي حياته في انتظار تلك اللحظة التي يحصل فيها على أدنى حقوق المواطنة. وهي لحظة تبقى معلقة. وإذا ما كانت الأحزاب اليسارية قد انتهكت حقوق الإنسان، فإنها لم تنتهك حق المواطنة، ذلك لأن ذلك الحق لم يكن موجودا أصلا.

لقد هربت أجيال من الشباب العربي وكانت السياسة عنوانا لذلك الهروب. غير أن السياسة لم تكن سوى ذريعة.

المشكلة هي أكبر من السياسة. ما عانت منه تلك الأجيال يمكن تلخيصه في غياب الوطن. وإذا ما كان اللجوء قد وفّر حلا وهميا بعنوان الوطن البديل، فإن ذلك الحل لا يمحو شعور المرء بغصة كونه من غير وطن.

المعادلة الناقصة التي ينتهي إليها اللاجئ تقع في حصوله على حقوق المواطنة كاملة من غير أن تغمره نعمة أن يكون له وطن. يظل وطنه المؤجل الذي يقع هناك هو وطنه الحقيقي. ولكنه وطن لا يمتّ إلى الحقيقة التي يمكن استعادتها بصلة. لا يصدق أحد أن وطنه ذهب من غير عودة.

لقد انتصرت الدول والأنظمة والأحزاب والجماعات المسلحة على الأوطان يوم حوّلتها إلى مداجن. ومثلما غُيّب مفهوم المواطنة فقد تمّ تغييب مفهوم الوطن، بحيث صار الوطن مرتبطا ببقاء النظام وأمنه. إن ذهب ذلك النظام فلا وجود للوطن.

وكما يبدو فإن ذلك الأمر لا يرتبط بنظام سياسي بعينه. فالعراق الذي نكب بمواطنته المؤجلة لا يزال بالرغم من تغيّر نظامه السياسي حريصا على أن يعلب الانتساب إليه في القالب الذي ينسجم مع سياسة نظامه. لذلك فإن الإنسان الذي يحرص على كرامته وحريته في الاختلاف يبقى محروما من الشعور بأن لديه وطن.

في ذلك السياق يبدو الوطن كما لو أنه هبة من النظام السياسي، وليس مفهوما قانونيا يقع فوق الدولة والنظام والحزب والملل والنحل.

يكفي لكي أفقد لذة استعادة مواطنتي على سبيل التعريف أنني حين أقول “أنا عراقي” يُقال لي “من أي طائفة أنت؟”.