لا ينكر أيٌّ من الوسطاء العاملين على خط تأليف الحكومة أنّ العملية بلغت «قمّة المأزق». فالجميع بمَن فيهم رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وأطراف النزاع على مواقفهم. وفي غياب الوسيط القدير، لم يظهر أنّ أيّاً منهم على استعداد للتراجع عن السقف الذي بلغه. وإن فعلها أحدُهم فباقتراح يفكّك عقدة ليفتح أخرى أكثر صعوبة. كيف ولماذا؟
 

على وقع السيناريوهات المتعددة والمتداخلة التي تحاكي العقبات التي زرعت الطريق امام الرئيس المكلف تشكيل الحكومة بالأشواك وحالت دون ولادة حكومية طبيعية الى الآن، تبدو الصورة في الأيام الأخيرة الماضية اكثرَ سواداً وتعقيداً لأسباب متعددة، خصوصاً في ظل فقدان الوسيط القدير على اجتراح الحلول التي تشكل مخرجاً قابلاً للتنفيذ للخروج من قمّة المأزق الذي بلغته العملية.


المتعاطون بهذه الطبخة الذين وقفوا على كثير من اسرارها والطروحات المتبادلة يجزمون بأنّ البحث لم يخرج عن الإطار الذي رسمته التشكيلة الأخيرة التي قدمها الرئيس المكلف الى رئيس الجمهورية مطلع ايلول الجاري. فكل الخيارات المتاحة والعروض المتبادَلة تتركز حول شكلها ومضمونها والمعادلات الجديدة التي ترجمتها وحصص مكوّناتها وطريقة تعديلها بغية إنتاج الصيغة ـ المخرج التي يمكن أن يقبلها الجميع.


على ضوء ملاحظات رئيس الجمهورية التي يمكن اختصارُها بالنقاط المحدّدة التي وضعها تحت شعار تحقيق التوازن المفقود في التشكيلة الأخيرة وجعلها أكثرَ عدالةً وتناسقاً مع نتائج الإنتخابات النيابية وسحب فتيل التفجير المحتمل في أيّ لحظة منها على قاعدة احترام الميثاقية المذهبية، تمحورت سلسلة المقترحات الأخيرة. فمنذ اللقاء في 7 ايلول الجاري بين رئيس الجمهورية والوزير غطاس خوري بصفته المستشار السياسي للرئيس المكلف انطلقت مسيرة التعديلات والمقترحات الحديثة، إذ طرح خوري مجموعة أفكار أحيت الحوار حول التشكيلة الحكومية الأخيرة مشفوعة باقتراح بضرورة التفاهم أولاً على وقف الحملات التصعيدية والجدال حول الصلاحيات والبحث جدّياً في ملاحظات رئيس الجمهورية على أساس أنّ الرئيس المكلف لم يرد ما حصل ولا رئيس الجمهورية تجاوز صلاحياته. فالمواد الدستورية التي حدّدت دورهما واضحة وهي تفرض التوافق بينهما قبل إصدار مراسيم تشكيل الحكومة العتيدة.


وعلى قاعدة ما كشفه من أنّ التشكيلة الأخيرة تضمّنت في بعض حقائبها والحصص ما لم يرده يوماً، فقد عاود رئيس الجمهورية تحديد ملاحظاته امام خوري وابلغ اليه صراحة رفضه حصة «القوات اللبنانية» الرباعية بلا وزارة دولة، وطريقة توزيع الحقائب الخدماتية مضافاً اليها مطلبه باستعادة وزارة العدل لتكون من حصته ورفض احتكار الحزب «التقدمي الاشتراكي «للوزراء الدروز الثلاثة وضرورة تمثيل النواب السنّة من خارج تيار «المستقبل» في التشكيلة الجديدة.


وعندما تأخّر جواب الحريري قبل أن يتوجّه الى لاهاي تزامناً مع زيارة عون مقرّ البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، اضطر رئيس الجمهورية الى ممارسة مزيد من الضغوط بقوله إنّ التشكيلة الأخيرة تضمّنت كل ما لم يرده على مستوى توزيع الحقائب والحصص، الامر الذي عزّز الإعتقاد بأنّ العقد ما تزال على حالها.


ولكن على رغم العقبات، فقد تمّ التفاهم مبدئياً على حصر المناقشات في الصيغة الأخيرة على أن يعترف الجميع بأنها باتت القاعدة الأساسية للإنطلاق منها في أيّ معالجة مقبلة. ولذلك فقد كشف عن اتّصالات على أكثر من متسوى ومنها على خط باسيل وخوري غداة لقاء بعبدا وعشية عطلة نهاية الأسبوع الماضي وتجدّدت بعد عودة باسيل من القاهرة الثلثاء الماضي وتناولت إعادة توزيع بعض الحقائب والحصص.


وعلى رغم التكتم على ما طُرِح، فقد كان واضحاَ أنه لم يرقَ الى مستوى الحل، فغادر باسيل الى مونتريال ولم يزر الحريري عون مجدداً. وقيل صراحة إنّ الحلّ لم يشمل حلّ عقدة وزارة العدل، إذ باتت من حصة طرف ثالث. ولم يُبتّ نهائياً بحقيبة «وزارة الدولة» ضمن حصة «القوات» ما لم يعَد النظر في إحدى الحقائب الثلاث الأخرى. ولم ينفع طرح اختيار وزير سنّي يشكّل نقطة تقاطع مع سنّة 8 آذار. ولا حسمت هوية الوزير الدرزي الثالث الذي يرضي طرفي الطائفة إذ بقي باسيل مصرّاً على تسمية ارسلان أو من يختاره.


وبناءً على ما تقدّم يبدو انّ الوضع بلغ «قمّة المأزق» وتُرجِم بحملات متصاعدة بين «التيار الوطني الحر» من جهة و»القوات» و»الإشتراكي» من جهة أخرى على وقع عجز الحريري عن توفير أيّ مخرج. فما طُرح من حلول لعُقدة ما ولّد عُقداً أُخرى اكثر صعوبة. وهو ما قاد الى مخاوف جدّية ليس على الوضع الإقتصادي الذي ينحو الى مدار الخطر ولو بعد حين، بل إنّ المخاوف بلغت احتمال وقوع حدثٍ أمنيّ ما يشكّل في حجمه وتوقيته ومخاطره «وسيطاً طبيعياً» يؤدي الى إعادة نظر شاملة في المواقف، فيتراجع كل طرف الى مكان ما يلتقي حوله الجميع لتوليد الحكومة في لحظة قد لا تخطر على بال أحد.