في ظلّ انسداد الأُفق أمام ولادة الحكومة العتيدة نتيجة انتظارات تفرضها التطورات الإقليمية المتلاحقة والتي تؤسس لاستحقاقات سيتوقّف عليها مستقبل المنطقة، يتحول الاستحقاق الحكومي اللبناني ساحة لتصفية الحسابات بين مختلف الأفرقاء استعداداً لملاقاة المستقبل الإقليمي.
 

وفي غمرة ما يجري ثمّة مخاوف بدأت تغزو مختلف الأوساط اللبنانية حول مستقبل لبنان السياسي والأمني والاقتصادي والمالي، الى درجة انّ البعض يتحدث عن «حدث كبير» أو «أحداث كبرى» يرجّح أن تشهدها البلد في خلال الأشهر المتبقية من السنة الجارية أو مع بداية 2019.


ولا يجزم أيّ فريق في ما ستكون عليه طبيعة هذه الأحداث الكبيرة»، ولكنهم مالياً يشيرون الى انّ الهندسات والمعالجات المالية المتخذة منذ نحو سنتين ستنتهي مفاعيلها مع نهاية السنة الجارية حيث سيكون أمام الدولة مجموعة استحقاقات مالية تتعلق بخدمة الدَين العام وخلافه،حيث تتزايد مقادير هذه الخدمة سنويّاً ومرجح أن تربو هذه السنة على الـ 6 مليارات من الدولارات رغم انّ غالبية هذه الديون داخلية.


ويعتقد معنيون انّ استمرار التأخير في تأليف الحكومة يعدم فرص اتخاذ المعالجات اللازمة للأوضاع الاقتصادية والمالية. وينقل هؤلاء عن ديبلوماسيين غربيين تأكيدهم انّ الغرب عموماً والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، تتجاذبه نظرتان في شأن طريقة التعاطي مع لبنان:

- النظرة الاولى تقول بضرورة الحفاظ على استقرار هذا البلد الامني والسياسي والاستمرار في دعم سياساته الاقتصادية والمالية، ولو بالحدّ الادنى، وإبعاده بأكبر مقدار عن النزاعات الدائرة في المنطقة، وذلك لتمكينه من تجاوز المرحلة الى حين توافر الحلول للأزمات الاقليمية الماثلة، وذلك بغضّ النظر عن العداء السائد بين الغرب و«حزب الله» الذي ينظر اليه الغربيون، وتحديداً الأميركيون، على انّه «منظمة إرهابية» ويسعون الى القضاء عليه، أو تقويض نفوذه لبنانياً واقليميّاً، او على الأقل إقصاؤه عن ايّ وجود له في السلطة، أو جعل هذا الوجود غير مؤثر في القرار الوطني اللبناني اذا استطاعوا الى ذلك سبيلاً.

-2 النظرة الثانية، تقول بترك الوضع اللبناني على ما هو من أزمات وتناقضات ورفع الغطاء عن الاستقرار الأمني الذي ينعم به، ولو نسبياً أحياناً، حتى يصيبه تدهور كبير على وقع ما يجري من حروب وأزمات في المنطقة يؤدي الى انهدام كلّ البنيان الاقتصادي والمالي، وحتى السياسي والأمني برمّته وتحميل «حزب الله» المسؤولية بما يؤدي الى إطاحة «الحزب» وبالتالي يُعمل على إعادة بناء لبنان على أسس جديدة، ووفق توجهات السياسية الأميركية الجديدة في المنطقة.


ويُقال انّ بعض المسؤولين اللبنانيين الذين تبلّغوا هذه المعطيات من ديبلوماسيين غربيين، تهيّبوا الموقف وركزوا على وجوب التعاطي مع لبنان وفق النظرة الاولى، أي الحفاظ على الاستقرار السائد فيه على كلّ المستويات، ومنع انهياره سياسياً واقتصادياً ومالياً ودعم سياسة «النأي بالنفس» التي يلتزمها، ولو في الحدّ الأدنى، وذلك في انتظار تحقيق المعالجات المطلوبة للحروب والأزمات الإقليمية السائدة. وقد شدّد هؤلاء المسؤولون على مسامع الديبلوماسيين الغربيين، على انّ الاستقرار اللبناني هو مصلحة حيوية، لكلّ العواصم والجهات الدولية الفاعلة المتعاطية بشؤون المنطقة قبل أن تكون مصلحة لبنانية، وانّ انهيار لبنان ليس فيه ايّ مصلحة عربية أو دولية.


على انّ بعض السياسيين المعنيين يقرأون في تعثّر تأليف الحكومة ما يشير الى انّ لبنان ليس أولوية الآن لدى بعض العواصم العربية والإقليمية الفاعلة، ولو كان الامر عكس ذلك، لكانت الحكومة ولدت بعد اسبوعين من تكليف الرئيس سعد الحريري. ويضيفون: «طالما انّ لبنان الآن ليس في سلّم الأولويات العربية والدولية، فإنّ الحكومة لن تولد قريباً، والأكثر من ذلك أنّ التوافق الداخلي الذي كان يعوّل عليه أحياناً للتأثير في أولويات المهتمين في لبنان ويدفع الى تغييرها، لم يعد له مثل هذا التأثير.


ولذلك، يقول هؤلاء السياسيون بلا تردّد حالياً «انّ هذا التأليف يزداد استعصاء ويدفع الاستحقاق الحكومي اكثر فأكثر داخل النفق المسدود، وذلك انتظاراً لتغيّر ما في الظروف لا يبدو انّه متوافر حالياً. فلو تُرك هذا الاستحقاق للأطراف الداخلية لكان في الإمكان إحداث خرق في الجدار السميك من المواقف المتباعدة، ولكن الظروف المحيطة بهم كانت ولا تزال تحول دون التقارب بين هذه المواقف.


ويتحدث بعض هؤلاء السياسيين عن «خطوط حمر» وضعتها بعض الجهات الاقليمية والدولية امام هذه الجهة اللبنانية أو تلك من الجهات التي ستشارك في الحكومة العتيدة، وقيل انّ هذه الخطوط لم تتمكن وساطات خارجية لدى هذه الجهات الاقليمية من تذليلها وهي تتصل بحجم الحصص الوزارية مقاعد ووزارات، التي يُفترض أن تعطى لكلّ فريق سيشارك في الحكومة.


ويردّد بعض المشتغلين في التأليف أنّ رئيس الجمهورية لا يُحبّذ ان يُعطى تيار «المستقبل» و»القوات اللبنانية» ما يريده حلفاؤهما لهما من احجام ومواقع وزارية، ويفضّل ترك الملف الحكومي على حاله في انتظار تغيّر المعطى الاقليمي». ويضيف هؤلاء السياسيون: «في ظلّ رهانات الجميع على الأوضاع الاقليمية فإنّ عون يراهن على معركة إدلب المنتظرة ليتمّ بعدها تأليف الحكومة، تماماً مثلما راهن على معركة حلب قبل انتخابه رئيساً للجمهورية خريف 2016، اذ انّه يعتقد انّ عامل الوقت المستقبلي سيكون في مصلحة عهده».


والى ذلك ثمّة من يراهن على انّ التأخير في ولادة الحكومة سينعكس سلباً على مصلحة الرئيس المكلف، ومن شأنه ان يفتح الباب امام المراهنين للعودة الى ساحة التنافس على الرئاسة الثالثة، خصوصاً اذا جاءت المتغيرات الإقليمية في مصلحتهم، بل انّ بعض هؤلاء يتصرفون على اساس انّ الحريري ينتظر من حلفائه الاقليميين دعماً أكثر فعالية ليبني على الشيء مقتضاه، علماً ان القاصي والداني يؤكدان انّ فكرة البحث عن بديل للرجل لم تُطرح على الطاولة منذ التكليف وحتى قبله والى الآن.


على ان السجال الدائر حول الحصص في الحكومة العتيدة انّما يعبّر، في رأي بعض المهتمين، عن ازمة نظام حقيقية، وسيترك ندوباً ستفرض وقائع جديدة على الطاولة، ما سيطرح تفعيل «اتفاق الطائف» لا تعديله، وتصحيح الاخطاء المرتكبة في تنفيذ بعض بنوده، والتحضير لتنفيذ ما لم ينفذ بعد من هذه البنود.

ويجزم المهتمون بأنّ التسوية التي أوصلت عون الى رئاسة الجمهورية والحريري الى السراي الحكومي عام 2016 بات من الإمكان نعيها بلا ايّ تردّد لأنّ هناك حسابات جديدة تتحكم بالمرحلة ومن ضمنها تأليف الحكومة العتيدة.