الهريسة أكلة محببة عند معظم الناس بالخصوص إذا ما كانت مكوناتها من الدرجة الجيدة
 

إرتباط عضوي صار يجمع بين أكلة الهريسة وبين المراسم العاشورائية في لبنان، حتى باتت وكأنها ارتقت لتصبح هذه العادة من ضروريات المذهب، مثلها مثل الكثير من الطقوس والعادات التي دخلت على المناسبة من خارج معاني الذكرى ومن خارج حتى التقاليد الاجتماعية المعروفة تاريخياً.

ليس محسوماً تاريخ قدوم هذه الأكلة الرائعة إلى جبل عامل وإلى لبنان بشكل عام، وفيها روايات متعددة أشهرها أن عائلة إيرانية قدمت إلى النبطية وسكنت فيها بداية القرن الماضي، وهي أي هذه العائلة من أدخلت معها الكثير من التقاليد العاشورائية كالطبل والدفوف وضرب الحيدر وحمل الرايات وغيرها الكثير من الطقوس التي لم تكن تُعرف عندنا قبلاً، فاختفى الكثير منها وصمد البعض ومن أبرز هذه العادات هي طبخ الهريسة وتقديمها للفقراء والمساكين عن روح الإمام الحسين (ع).

قديماً، في زمن الفقر والعوز كان الناس يتطلعون إلى الهريسة على أنها فرصة لا تعوض، فيحضرون إلى مكان الطبخ مصطحبين معهم أوعيتهم وطناجرهم بانتظار نضوج الطبخة ليأخذ كل بحسب حاجته وبحسب حجم الطنجرة ليطعم أولاده وعائلته الفقيرة منها، ولعل بعض هذه العائلات كانت لا تعرف الدجاج واللحم في بيوتها إلا بموسم عاشوراء.

إقرأ أيضًا: هل يتبرأ حزب الله من مصطفى بدر الدين؟

أما الآن فقد تحوّلت الهريسة إلى أكلة عامة غير مختصة بالفقراء فقط، ومع مرور الزمن والتصاقها بالذكرى، فقد إكتسبت شيء من قداسة المناسبة لدرجة أن كثيرين من المؤمنين يتناولونها للتبرّك وحتى بعضهم يتناولها للتداوي والإستشفاء، ومع دخول العلب والملاعق البلاستيكية صار تناولها سهل مستسهل وبشكل فردي، ولم تعد تحتاج حتى إلى الجلوس وتضييع الوقت.

الهريسة أكلة محببة عند معظم الناس بالخصوص إذا ما كانت مكوناتها من الدرجة الجيدة، والأكثر شهرة وإنتشاراً هي ما طهيت بالدجاج وليس باللحم، وبالزبدة البلدية والقمح البلدي، وكانت "مهروسة" بشكل جيد ومطبوخة على الحطب وليس على الغاز، مع مقادير دقيقة لمركبات وبهارات لا يعرفها إلا كل ذو حظ عظيم.

لا شك أن صنع الهريسة يحتاج فضلاً لمبلغ مالي مرقوم (حسب الكمية)، إلى جهد كبير ومعاناة لا يعرف حجمها إلا من سبق له أن شارك بهذا الطقس المبارك والذي قد يمتد طيلة الليل إذا ما بدأ بتسخين المياه في الساعات الأولى للغروب، ولا بد من تعاون عدد لا بأس به من الشباب للمساهمة بـ "الحرك" الدائم.

بعيداً عن المعاني السامية لعاشوراء، ولجوهر الذكرى المغيب أصلاً، حيث لا إصلاح ولا من يصلحون، ولا هيهات منا الذلة ولا من يهيهتون ... بعيداً عن كل هذا وذاك فإن أكلة الهريسة هي من أهم ما نستفيده من هذه الذكرى، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نؤكد على أهمية هذه العادة الجميلة ونقول لكل من يساهم بإحيائها واستمرارها: مأجورين انشالله.