لم تمر دعوة رئيس الهيئة العليا للتأديب القاضي مروان عبود لطرد نصف الموظفين في الإدارات الرسمية «بتهم الفساد»، من دون جدل على المستوى الشعبي، إثر إضاءته على تنامي ظاهرة الفساد في الإدارات الرسمية، وعزوف قسم من الموظفين عن العمل، رغم التشكيك بالنسبة التي تحدث عنها، والإقرار، في سياق آخر، بأن هذه الظاهرة متفشية، وتحميها منظومات مرتبطة بالولاءات السياسية والحزبية.

وتستهلك رواتب وأجور موظفي القطاع العام أكثر من ثلث موازنة الدولة سنوياً. وتحمّل مصادر لبنانية، الدولة نفسها مسؤولية تحويل بعض العاملين إلى عاطلين عن العمل في الإدارات، إثر التعيينات الإدارية، ومن ضمنها في القطاعين العسكري والأمني.

أزمة متوارثة

وليس الإعلان الأخير لرئيس هيئة التأديب، إلا كشفاً عن جزء من أزمة «سوء إدارة» تعتري المؤسسات الرسمية، وتمتد من زمن الحرب، حتى باتت ثقافة متفشية في الدولة اللبنانية، كما هو الحال في دول أخرى تعد من الدول النامية، أو عاشت تفلتاً إدارياً وسياسيا لمدة طويلة، كما قال وزير الدولة لمكافحة الفساد نقولا التويني لـ«الشرق الأوسط».

ولا يخفي موظفون في القطاع الرسمي أن زملاء لهم يغيبون، أو أنهم لا يعرفون زملاء آخرين يتفاجأون بأنهم مسجلون في قوائم الرواتب والأجور، لكنهم لا يحضرون إلى وظيفتهم. ويقول أحد هؤلاء لـ«الشرق الأوسط» بأنه يحضر مرة في الأسبوع، ويقوم بواجباته خارج الإدارة، فيما يقول آخر بأن زميلاً له كان يوقع قانونياً على حضوره بدلا منه، قبل أن تتغير الظروف إثر اعتماد بصمة اليد.

ووجد معظم الإدارات الرسمية منذ سنوات حلولاً لهؤلاء عبر إلزامهم بالحضور شخصياً عبر إثبات الحضور من خلال بصمة اليد، لتأكيد حضورهم، بدلاً من البطاقة أو التوقيع على الحضور.

وتبلغ أجور الموظفين في الإدارات الرسمية اللبنانية نحو 8 مليارات دولار سنوياً، موزعة بين موظفين عاملين بمبلغ 6.1 مليار دولار، وللمتقاعدين بمبلغ 1.9 مليار دولار، وهو «ما يمثل نحو 60 في المائة من دخل الدولة السنوي البالغ 12.5 مليار»، بحسب ما يقول الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين.

وإذ يؤكد أن هناك هدراً كبيراً نتيجة عدم مداومة الموظفين في وظائفهم، يقول بأنه «لا أرقام دقيقة لحجم الهدر، ولو أن هناك تقديرات تتحدث عن أن كلفة الهدر والفساد تبلغ 10 في المائة من الناتج المحلي، أي تبلغ نحو 4 مليارات دولار».

وكان القاضي عبود أعلن أن هناك انهياراً وتدنياً في مستوى الخدمات وسوء تصرف من قبل الموظفين العموميين، مشدداً على وجوب عدم انتظار الحكومة. ولفت في حديث تلفزيوني إلى أن «ثلثي الدولة معطوب»، موضحاً «ثلث يقبض، وثلث لا يعمل، والثلث الثالث من الاوادم». واعتبر عبود أنه يجب طرد نصف الموظفين في الدولة اللبنانية بتهم الفساد.

لكن تويني، يشكك في الأرقام التي تحدث عنها «رئيس هيئة التأديب»، قائلاً بأنه «مبالغ فيها»، وأن الأرقام «غير دقيقة»، مضيفاً: «مع احترامنا لصديقنا القاضي عبود الذي كانت له مساهمات فعالة جداً في تعاون بيننا، لا يمكن لأحد أن يفتي بحجم الحالة من الناحية العلمية، بغياب أي إحصاء دقيق». وقال: «ما هو ثابت لدينا أن 10 في المائة من الموظفين على الأقل، لا يحضرون إلى وظائفهم». وعما إذا كانوا محميين من أطراف سياسية أو حزبية، قال تويني بأن هؤلاء «يتبعون الطرق القانونية، عبر التحايل على القانون، لتبرير غيابهم، لأنهم يتذرعون بمهمات خارج الوظيفة، أو يحضرون تقريراً طبياً مزوراً بذريعة توعكهم صحياً، أو بحالات عائلية وغيرها من الطرق التي يستفيدون فيها من قانون يتيح الغياب لأمور طارئة، وطبعاً هي تقارير أو ذرائع غير صحيحة، وذلك لأنه من دون مبرر للغياب، سيتعرضون للعقوبة».

ويذهب تويني أبعد من قضية الحضور والفاعلية في الإدارات الرسمية، إذ يتوقف عند بعض الموظفين الذين يلتزمون بالحضور إلى المؤسسات، مضيئاً على قضية فساد من نوع آخر، تتمثل في الرشى، وهي وجه من وجوه الفساد المستشري. ويقول: «لا سر نبوح به عندما نتحدث عن رشى موجودة في الإدارات الرسمية، والمواطن شريط فيه»، موضحاً أن هناك «علاقة جدلية بين الراشي والمرتشي، أي بين المواطن والموظف»، مشدداً على ضرورة «معاقبة الموظف، ومعاقبة المواطن الذي يستفيد من الرشوة والتي يعتادها لأنها مربحة بالنسبة له كونه يوفر 10 أضعاف ما يجب أن يدفعه بالمقابل للدولة»، لافتاً إلى أن هذه المعضلة «مرتبطة بثقافة عامة، متعلقة باللصوصية تجاه المال، واعتبار التلاعب على القوانين تشاطر للاستفادة من المداخيل غير الشرعية». وزاد: «نمت هذه الثقافة منذ أيام الحرب، وتم توارثها، ولا تزال قائمة في الإدارات الرسمية».

وأثار تنامي نسبة العاطلين عن العمل في الإدارات الرسمية، جدلاً واسعاً في الأوساط الشعبية اللبنانية. ومع محاولات الحكومة اللبنانية لتطويقها، تحمل مصادر لبنانية واسعة الاطلاع الدولة اللبنانية نفسها مسؤولية عنها، وتقول بأن ما يتم كشفه «هو جزء من معضلة التدخل السياسي في الوظائف العامة والتي تنسحب على معظم الإدارات الرسمية».

موظفون عاطلون

وتقول المصادر بأن الدولة في بعض التعيينات «تحول الموظفين إلى عاطلين عن العمل قبل بلوغهم سن التقاعد». وتوضح: «في التعيينات الأمنية الأخيرة، على سبيل المثال لا الحصر، تم تعيين قائد للدرك، ولأن القانون لا يسمح بأن يكون رئيساً على ضباط أعلى منه بالرتبة، أو أكثر أقدمية منه بحسب القانون، تم وضع 13 ضابطاً بتصرف المدير العام، بمعنى أنهم باتوا بلا موقع بانتظار تعيينهم في موقع آخر أو بانتظار بلوغهم سن التقاعد، وبذلك تكون الدولة قد وضعت هؤلاء الذين يتقاضون رواتب في موقع البطالة رغم أنهم لا يزالون على قوائم العاملين». وقالت المصادر بأن هذه التعيينات «غالباً ما يتم اللجوء إليها، ولا تقتصر على هذه الحادثة، وهو بات معمولاً به، وموجوداً في الأجهزة الأمنية والعسكرية».

العسكر

وتواجه الأجهزة الأمنية والعسكرية تضخماً في عدد الضباط برتبة عمداء، وتبلغ 800 عميد في القوى العسكرية والأمنية، بحسب ما يقول الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، يتقاضى كل منهم نحو 6 ملايين ليرة، عدا عن الحوافز الأخرى. وينتج التضخم عن الترقيات، حيث يترقى الضابط كل 3 سنوات حتى يصل إلى رتبة «رائد»، ثم يترقى كل أربع سنوات من رتبة «رائد» إلى رتبة «عقيد»، قبل أن يترقى خلال 5 سنوات من رتبة عقيد إلى عميد.