«حرب الإقالات» المندلعة بين «العونيين» و«الاشتراكيين» لا تخرج عن إطار المتوقع في علاقة قلّما شهدت جولاتٍ من الهدنة الهشّة. «تطيير» موظفين من المقلبين تعكس حجم الاحتقان بين الطرفين في ظلِّ تشدّدٍ غير مسبوق من جانب رئيس الجمهورية ميشال عون والنائب السابق وليد جنبلاط بعدم التنازل عمّا يعتبرانه مكتسباتٍ وزارية.
 

لم يشفع تسليف جنبلاط العهد «ورقة» انتخاب عون رئيساً في جرّ الزعيمين المسيحي والدرزي الى المنطقة المحظورة. عدمُ وجود تفاهم مسبَق بين الطرفين، على غرار التوافقات مع الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وسابقاً «حزب الله»، صعّب مهمّة إبقاء «الكلام الكبير» والمآخذ المتبادلة داخل الغرف المغلقة.


صحيح أنّ «القوات» و»التيار الوطني الحر» لم يقصّرا في نشر «غسيلهما» على السطوح على رغم وجود تفاهم مكتوب بينهما، إلّا أنّ الخلاف العوني-الاشتراكي غير المضبوط هو أكثر حساسية ودقة وبات يأخذ شكل «الفتنة» الطائفية و»الوظيفية»!


رأي وليد جنبلاط بميشال عون معروف. لم يرَ أمامه نموذجاً آخر لكميل شمعون أو بيار الجميل أو ريمون إده الذين سكنتهم الواقعية حيال فرص انتخابهم رؤساء للجمهورية، فكانت انتخاباتُ 17 آب 1970 التي توّجت سليمان فرنجية رئيساً بفارق صوت واحد عن الياس سركيس.


وبطبيعة الحال، لم يكن زعيم المختارة يوماً من مؤيّدي «نظرية» الرئيس القوي التي أنتجت في الماضي، برأيه، حروباً وصراعات ولا يمكن إلّا أن تنتج المزيد منها مع وصول «الجنرال» الى قصر بعبدا.


في جلسات الحوار السابقة التي فنّدت مواصفات رئيس الجمهورية و»أصله وفصله»، كان جنبلاط من أكثر المقلّين في الكلام. أطول مداخلة لم تتخطّ الدقيقتين. كان يضع ملاحظاته على ورقة صغيرة. يُدلي بما لديه بإقتضاب كليّ ويذهب مباشرة نحو صلب الموضوع متجنّباً المطوّلات.


وكان عليه تذكير الحاضرين دوماً «أننا قد نتفق وقد لا نتفق، لكن بمطلق الأحوال قد يصعدوننا مجدداً الى أحد الطوابق في فندقٍ ما في عاصمةٍ ما كما فعلوا في الدوحة، حيث تآلفنا مع روائح السيجار وفرضوا علينا التسوية. «لطشة» جنبلاط يومها جاءت في غمرة الحديث عن تعديل الدستور وخروج المتحاورين بقرار رفض تعديله. أما رؤية «البيك» لمواصفات الرئيس فترجمت بما قلّ ودلّ «يملك حيثية وطنية وقوة جذب للآخرين».


وصول عون الى بعبدا بتسوية تكاد تكون «محلية»، وبغضّ نظر دولي وإقليمي، دَفع جنبلاط الى استيعاب «الضربة» لكن ليس طويلاً بعدما وصلت العلاقة بين الطرفين الى شبه قطيعة توِّجت بحكمه المبرم على «العهد الفاشل».


يبدو الوزير جبران باسيل، بأدائه وعقليّته، مجرد تفصيل في مسار العلاقة الصدامية بين الزعيمين المسيحي والدرزي اللذين لم يخرجا يوماً من نفق الماضي وترسّباته. والنتيجة، على رغم «لمعات» مصالحة الجبل، وصول العلاقة الثنائية الى حدّ الخوف المشترك من فلتان الشارع، وهذا ما اختبره الطرفان أكثر من مرة وآخرها في حزيران الفائت حيث أدّى اشتعال «الجبهة» على مواقع التواصل الاجتماعي الى صدور بيان مشترك عن «التيار الوطني الحر» وعن الحزب التقدمي الاشتراكي في هدنة بدت مرحلية ضمن «حرب» مفتوحة لا يبدو أنّ أحداً من الطرفين قادر على التحكّم بتداعياتها، إلّا إذا اعتُبرت مرحلة تيمور جنبلاط صفحة جديدة في كتاب العلاقة الشائكة على خط بعبدا- المختارة.


في ظلّ علاقة متوازنة مع الرئيس سعد الحريري وممتازة مع الرئيس نبيه بري وتنسيق أكثر تقدّماً مع «حزب الله» يقارب التفاهم الصلب على عدم الاصطدام في الداخل وتفضيل توجيه «الصواريخ» الجنبلاطية باتّجاه الرئيس السوري بشار الأسد فقط، يبدو جنبلاط مستغنياً بالكامل عن «خدمات» «العهد العوني»، بكل ما يعني من سلطة ونفوذ وإمكانية تلاقي سياسية «مصلحية»، مفضّلاً أسلوب شدّ العصب الدرزي طوال فترة «إقامة» عون في قصر بعبدا. وليس من طريقة أفضل لذلك من تصوير رئيس الجمهورية وباسيل يضعان أيديهما على الحصة الدرزية و»تحجيم» البيت الجنبلاطي!


مع ذلك، تؤكّد أوساط «الاشتراكي» أنه لن يكون هناك «ردّ فعل على «الكيديين» أصحاب العقول الانتقامية»، في مقابل شبه تسليم عوني، وبغض النظر عن «خلفية» إعادة الوزير مروان حمادة الموظفة هيلدا خوري الى موقعها الأساس ونقلها من رئاسة دائرة الامتحانات الرسمية، بأنّ السياسة المتّبعة مع جنبلاط لن تكون أقلّ من «العين بالعين والسن بالسن».


وتفيد معلومات في هذا السياق بأن ليس هناك من وساطة حتى الآن لتبريد النفوس المحقونة بين الطرفين، فيما تشير أوساط معنية بأنّ جنبلاط لم يكن على علم شخصياً بخطوة وزير التربية الذي تجاوب مع تمنِ خاص من جانب الحريري بتعيين موظفة أخرى مكان هيلدا خوري المحسوبة على «التيار الوطني الحر».


ويقول متابعون لمسار العلاقة بين رئيس الجمهورية وجنبلاط بأنها ستبقى محكومةً بالتوتر الدائم طوال ولاية عون، مشيرين الى أنّ أحد أبرز مآخذ جنبلاط على «الجنرال» تبنّيه لـ «الحالة الارسلانية»، المفتعلة برأيه، يوم شارك في آذار الفائت شخصياً في إزاحة الستارة عن النصب التذكاري للأمير مجيد إرسلان، في رسالة كانت واضحة المقاصد، في الوقت الذي كان لا يزال فيه النائب وائل ابو فاعور يتفاوض مع الجانب العوني في احتمالات التحالف مع «التيار» في الجبل. ما تُرجم بنظر جنبلاط تبنّياً لإرسلان، في مواجهة زعيم المختارة، حتى قبل صدور نتائج الانتخابات النيابية.


وفيما تؤكد المعلومات أن لا إمكانية للقاء قريب بين عون وجنبلاط، فإنّ الأخير كان قصد بعبدا في تموز الفائت في عزّ الأزمة الحكومية، إلّا أنّ اللقاء لم يترجم فكفكة للعقدة الدرزية بل كرّس تصلّباً متبادلاً في المواقف إنعكس على قواعد «التيار» و»الاشتراكي»، مع تعويل متابعين على دخول جديد لمدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم على خطّ تبريد «الرؤوس الحامية» لدى الطرفين!