تقريباً، تبدو شخصية واحدة «ضد الجميع»- ما عدا «حزب الله» طبعاً- هي الوزير جبران باسيل. ويوحي باسيل، إلى حدّ ما، وكأنه «المشكلجي» الذي لا يترك لنفسه صاحباً. ويعتقد البعض أنّ هذه الصورة ليست ضد مصلحة الرجل، بالضرورة، بل هي جزء من عملية تكوين صورته «المرشح الأقوى» لرئاسة الجمهورية. لكنّ آخرين يعتبرون - على العكس- أنّ ما يقوم به باسيل حالياً من شأنه القضاء تماماً على «حُلمه» بالرئاسة!
 

في المبدأ، ما زال هناك أكثر من 4 سنوات لانتهاء عهد الرئيس ميشال عون. لذلك، قد يبدو غير طبيعي أن تنطلق المعركة الرئاسية اليوم. فحتى خريف 2022، من الممكن أن تطرأ تطوّرات ومتغيّرات في لبنان والشرق الأوسط من شأنها أن تقلب كثيراً من المقاييس، بحيث يصبح القوي اليوم ضعيفاً في ذلك الحين، والعكس صحيح.


إضافة إلى ذلك، في المبدأ، ليس المجلس النيابي الحالي هو الذي سينتخب الرئيس المقبل. فهذا المجلس تنتهي ولايته في ربيع 2022. وأما رئيس الجمهورية فتنتهي ولايته في الخريف. وإذا لم يتم «تظبيط» المواعيد قصداً، بالتمديد للمجلس الحالي- بذريعة معيّنة - 6 أشهر مثلاً، فإنّ المجلس النيابي المقبل هو الذي سينتخب الرئيس القادم.


إذاً، إنّ التحضير لمعركة رئاسة الجمهورية يستلزم التحضير أولاً لمعركة أخرى تتعلّق بالمجلس النيابي. فقد يكون هناك بعض القوى الراغبة في التمديد للمجلس الحالي لأنها ربما لا تضمن التوازنات في المجلس المقبل. ولذلك ستسعى إلى التمديد. وقد يكون الخلاف مجدداً على قانون الانتخاب مبرّراً لذلك… أو ربما تعمل هذه القوى لإيجاد ذريعة تبرّر إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.


ولكن أيضاً، سيحاول البعض أن يراهن على إنجاز قانون انتخاب يلائمه بحيث يكون حضورُه في المجلس المقبل أقوى ممّا هو اليوم، ويكون أكثر قدرة على قول كلمته في الاستحقاق الرئاسي المقبل.


وعلى هذا الأساس، يبدو واضحاً لماذا يحتدم النزاع على الحصص والمواقع القوية في الحكومة. فالقادر على تعطيل الحكومة يمكنه تعطيل الوصول إلى قانون انتخاب جديد، بل تعطيل الانتخابات النيابية. وهو بذلك يمتلك أوراقاً قوية في ملف الانتخابات الرئاسية.


وفي العامين الفائتين، حاول باسيل أن يرفع حظوظه إلى الحدّ الأقصى، فذهب مباشرة إلى الأقوى، أي «حزب الله»، وحافظ على العلاقة الوثقى به. ومن هناك، بدأ محاولاته لـ»قطع رؤوس» منافسيه المفترضين على موقع الرئاسة. ولكنّ باسيل يخشى حالتين:

-1 أن يؤيّد «الحزب» سليمان فرنجية هذه المرّة بعدما أيّد عون وفاءً له في المرّة السابقة.

-2 أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ويقتنع «الحزب» بالرئيس «الوسطي»، كما كان قبلاً، بعدما فرضت ظاهرة ميشال عون واقع «الرئيس القوي».


يحاول باسيل أن «يُعملِق» صورته على غرار عون بفتح المعارك على مداها. وفي عبارة أخرى، هو يحاول أن يرث منه «الصورة» والموقع الرئاسي بعد الموقع الحزبي. وفي أيّ حال، عون يساعده على تحقيق هذا الهدف.


خصوم باسيل يقولون: هو لم يترك لنفسه صاحباً، فكيف سيحظى بالتوافق ليكون رئيساً للجمهورية؟ فوضعه المسيحي سيّئ مع الجميع: «القوات» و«المردة» وحزب الكتائب... ووضعه السنّي بات سيّئاً مع الحريري، ووضعه الشيعي سيّئ مع الرئيس نبيه بري، ووضعه الدرزي سيّئ مع النائب السابق وليد جنبلاط، فمَن سيدعمه إذاً، باستثناء «حزب الله»؟


عند هذه النقطة يتوقف القريبون من باسيل ويقولون: «لا تبالغوا. فالعلاقة مع الحريري مقبولة على رغم كل شيء وتحكمها المصالح المتبادلة والحاجة إلى الشراكة في السلطة. وكذلك، ليست العلاقة بهذا السوء مع بري. وأما جنبلاط فيرفع السقفَ أحياناً للحصول على مطالب معيّنة ثم يهدأ. ويبقى المسيحيون.

 

وليس مستحيلاً التفاهم مجدداً معهم كما تمّ ذلك عند تأمين التوافق على انتخاب عون. ومهما ارتفعت حدة الخصومة بين باسيل و«القوات اللبنانية» فهي لن تبلغ حدود النزاع الدموي الذي دار في بعض الفترات بين «القوات» وعون. وعلى رغم ذلك، تبنّت خيار انتخابه رئيساً للجمهورية».


الواضح أنّ باسيل يحاول تكرارَ الآلية التي أوصلت عون إلى الرئاسة، أي التحالف مع القوي، «حزب الله»، وتسليفه الدعم والتغطية مقابل الحصول منه على الدعم والتغطية. وهو يأمل في نجاح هذه الآلية مجدداً لأن لا متغيّرات في الموازين طرأت على اللعبة. وفي تقديره أنّ هذا التحالف يتكفّل بتذليل كل العقبات الأخرى، مهما كبرت، كما جرى تذليلها بوصول عون.


وبالاضافة الى كل هذا، سيكون التطبيعُ مع دمشق أحد العناوين الأساسية لمعركة الرئاسة المقبلة. ويردّد القريبون من باسيل أنّ من مصلحة دمشق أن يكون لرئيس الجمهورية الحليف رصيد شعبي وسياسي مسيحي قوي، إضافة إلى حضور دولي كرّسه العمل في وزارة الخارجية. وهذا ما يمثّله اليوم عون، ويمكن باسيل أن يمثّله لاحقاً، ولكن لا يستطيع توفيره حليف آخر كفرنجية.


إذاً، باسيل يصعّد في المواجهة بنحو مفتوح وعلى جبهةٍ دائرية، وهو متفائل بأنّ حظوظه مضمونَةٌ في تكريس موقع سياسي قوي داخل اللعبة، وتالياً ستكون شبه مضمونة في بلوغ موقع الرئاسة، لأنّ أيّاً من منافسيه المفترضين لا يملك القدرة على تقديم الثمن للأقوياء إقليمياً وداخلياً، أي محور إيران - الأسد - «حزب الله».


وفي المبدأ، يبدو منطقياً رهان باسيل إذا بقيت المعادلات الإقليمية والداخلية على حالها لسنوات مقبلة. فالحريري نفسه يهادن «حزب الله» إلى أقصى الحدود ويريد الفصل بين واقع الشراكة معه داخلياً وما تكشفه وقائع المحكمة الدولية. كما أنّ جعجع يبدي ميلاً إلى مهادنة «الحزب» وعدم فتح الملفات الساخنة معه حالياً، لعلّ ذلك يكون فرصة جديدة للتفاهم.


وقد تثبت حسابات باسيل أنها صحيحة، إلّا إذا طرأ ما ليس في الحسبان. ومن ذلك تغيير معادلات القوة في الشرق الأوسط. وفي هذه الحال، سيكون لكل حادثٍ حديث. ولكن، عادةً، لا خوفَ على القوى اللبنانية، بغالبيتها. فهي إجمالاً اعتادت الالتفافَ مرّاتٍ ومرّات حول نفسها والتكيّف مع المتغيّرات.