حين فاز حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان لأول مرة تحت مظلة العلمانية التي أسسها أتاتورك في تركيا، اعتبر كثيرون وأنا منهم بأن تجربة جديدة ولافتة تحصل لعلمنة الخطاب الإسلامي في المجال السياسي، وأن العلمانية في تركيا ستخطو خطوة إضافية إلى الأمام بعد نجاح أردوغان في رفع الوصاية الأمنية والعسكرية عنها، وأن خطاباً إسلامياً آخر بدأ يظهر كبديل عن خطاب الإسلام السياسي الحديث والمعاصر الذي ظهر في المجال العربي في ظل أزمة هوية مهددة وجراحات هزائم ونكسات متتالية.    

توقعنا أن ينتقل هذا الخطاب من إشاحة الوجه عن معطيات العصر إلى التعامل معها بجدية وشفافية، من أن يكون مشروع سلطة إلى أن يكون مشروع دولة، من مركزية سلطة حادة إلى توازن سلطات، من آحادية حصرية إلى تعددية سياسية لا تستثني أو تقصي أحداً، من الدوغما إلى الذهنية العلمية التي تقدم نتائجها كمقترحات لا كيقين، من أدلجة الإسلام واستعماله مادة تعبئة وشحن إلى فتح المجال لقراءته وفهمه وحتى نقده، من تريث الحاضر أي جعل الحاضر تابعاً للتراث ومن ملحقاته إلى اليقظة الفكرية في استحضار التراث، من الدعوة إلى أسلمة الدولة إلى تقديم إسلام يؤسس لمجال سياسي مستقل يستمد مشروعيته وقواعد نشاطه من طبيعته وذاته، أي إسلام يخلي ويقيل نفسه من دائرة السياسة بحكم أن الدين والسياسة طبيعتان مختلفتان بل متباينتان.

كان لهذه التوقعات ما يسوغها في خطاب قيادة حزب العدالة والتنمية حينها. حين أكد أردوغان على التقيد الكامل بالنظام العلماني، وعمد إلى تعديل الكثير من القوانين والأحوال الشخصية ليغري الاتحاد الأوروبي بقبول تركيا عضوا فيه. والأهم من ذلك النمو الاقتصادي الفائق التي حصل في زمن حكم العدالة والتنمية، ما حول تجربة الحكم الجديدة إلى ظاهرة لافتة، أقنعت الكثيرين بأن الإسلام قادر على أن يكون قوة داعمة للنهضة والتحديث الداخليين.

بيد أن مساراً آخر أخذ يظهر عبر مؤشرات متلاحقة، أوحت بأن الحكم الأردوغاني اتخذ وضعية منافية لوعوده الأولى ومخيبة للانتظارات المتوقعة منه.  أولها اعتماد الشعبوية في المواجهة اللسانية ضد إسرائيل مع إبقاء العلاقة المؤسساتية عميقة بين البلدين (تركيا وإسرائيل). ثانيها تبني ورعاية خط الإسلام السياسي المنادي بإقامة الدولة الإسلامية في المجال العربي، وهو خط يتراوح بين تيار معتدل مثل الأخوان المسلمين وتيارات جهادية مسلحة مثل النصرة.  ثالثها تقليص دائرة الحريات داخل تركيا وإعادة بناء طاقم الدولة البشري ليكون موالياً له بالكامل أي شخصنة الدولة التي يفترض بها أن تكون كائناً معنويا عاماً، رابعها تحويل النظام من برلماني إلى رئاسي لا لغرض تسريع أداء الدولة بقدر الإمساك بمساحة شبه مطلقة للسلطة. خامسها تحويل ساحة التنافس السياسي داخل تركيا إلى ساحة حرب، بالمعنى المعنوي والسياسي، ضد خصومه. وهو أداء يستنفد الوسع في استثارة الغرائز، حيث لا يتوقف النصر عند الفوز بأكثرية الأصوات بل بشخصنة المواجهة وكسر شوكة الخصم وربما تحطيمه. سادسها تعويم القوى الجهادية في سوريا وإبقاء القوى ذات التصور الديمقراطي - العلماني هامشية وثانوية.  سابعها التضخم في شخص أردوغان والسعي إلى أسطرة نفسه بصفته باعثاً لتركيا جديدة وأباً جديداً لها. ثامناً اعتماد خطاب المؤامرة لمواجهة الأزمات الداخلية، المالية منها على وجه الخصوص، باصطناع عوامل خارجية من جهة واستعادة الخطاب الإحيائي الذي يرجع حاضر تركيا إلى مجدها القديم.

تقليص حيز الديمقراطية في الداخل، وتحويلها إلى شكلانية صناديق اقتراع أكثر منها إلى قيم سائدة ، وإلقاء الإسلام بكامل طاقته التعبوية والتحشيدية في معركة السياسة وبناء الجمهور الموالي، وتضخيم التراث وتبني خطاب الأصالة والنكوص نحو الماضي لمواجهة إحباطات الحاضر أو تحدياته، هي مؤشرات انقلاب على العلمانية نفسها، التي وإن استمرت في تركيا برعاية وحماية عسكرية، إلا أنها كانت الوسيلة الوحيدة لإدخال تركيا نسبيا في الحداثة وفي السوق الإنتاجي والصناعي.

كانت العلمانية كلمة السر لتركيا الحديثة، لكونها لم تحيد فكرة الدين عن مجال الدولة فحسب، بل حيدت نفوذ العدد الهائل من الطوائف الإسلامية المتعادية والمتكارهة حول أصول شرعية سياسية أو دينية انتهى زمانها، ليحل محلها شرعية التعدد في الأديان وشرعية تعدد الطوائف في الدين الواحد.

علمنة المجتمع وعلمنة الدين، هي ضرورة لعالمنا الإسلامي مثلما هي ضرورة لتركيا.  فالإسلام أحوج الأديان إلى الفصل فيه بين الزمني والروحي، لأنه يساعد الإسلام على استرداد وضعيته الطبيعية كوجدان جمعي شبه فطري، ويتيح له الفرصة كيما ينعتق من طوق وإسار التسييس والأدلجة الذي يكبله به اليوم دعاة الإسلام السياسي بمختلف تياراتهم وتلاوينهم من خلال رفعهم وتطبيقهم شعار إعادة الأسلمة.  وهو شعار يعني عمليا تحويل الإسلام من دين إلى أيديولوجيا وتحديداً إلى أيديولوجيا مناهضة للحداثة ومعادية لمبدأ الدولة الحديثة، وإلى عقيدة سياسية متعالية لا صلة لها بأي واقع.

نجح أردوغان في توسعة دائرة سلطته ونفوذه، لكنه فشل في تقديم نموذج حكم يقدم إسلاماً فاعلاً في العصر، ومتحرراً من هلوسات الأيديولوجيا السلطانية، ومتصالحاً بل متناغماً مع العلمانية لا بصيغها المتطرفة والملتبسة والسجالية، بل بحقائقها التاريخية ودلالتها الوظيفية.

تحول أردوغان من مشروع واعد إلى ظاهرة مقلقة.