ما بعرف إدبك... ومشكلتي مع الدبكة هي في أنّها فولكلور متوارث أكثر من كونها فنّاً نتقنه عن قناعة أو شغف. ندبك في الأعراس، ندبك في المناسبات، نتنافس ونتباهى وننطّ ونكسّر الأرض بضربات أرجلنا، ويمكن أن نفختها بكعب اسكربيناتنا، ونعرق ونتعب وبالكاد نصل إلى السيارة... لكن لا أحد منّا يعود إلى منزله ليقرأ عن أصول الدبكة اللبنانية وعلاقتها بالفنون الفينيقية وتأثّرها بالمدّ الإغريقي، ولا حتى نجلس على البلكون ونستمع لكاسيتات آلان مرعب ونغوص في ما ورائيات الهوّارة، فالأكثرية بيننا تحبّ فريدي مركوري وبينك فلويد وفرقة أبا، وفي الغالب نجوى كرم هي أقرب ما نحبّه إلى الفولكلور اللبناني.


ببساطة، نحن شعب يحبّ الدبكة، ومستعدّون أن ندبك حتى على السوشل ميديا وفي الأزمات الوطنية ووقت الحزّات وفي الأفراح والأتراح، وعلى خراب البلد... وكان غريباً للغاية حجم حلقة الدبكة التي اشتركنا فيها بسبب الوضع الكارثي في المطار، والأغرب كان تفاجؤنا من التخلّف في التعاطي مع الناس وإذلالهم ومسح كرامة باسبوراتهم بالأرض. لكن هل انتبهتم إلى أنّ هؤلاء الموجودين في المطار يملكون أصلاً الوقت لتخليص معاملات فيزا، والمال الكافي لشراء تذكرة سفر وتمضية 4 أو 5 أيام في الخارج، أو ربّنا وفّقهم بعمل للهروب من جهنّمنا... وأنا ما معي روح عالمطار ولا حتى إدفع ثمن باركينغ هناك، وليس لديّ مشاريع سان توريني وميكونوس ومارمريس... فأنا آخر مغامرة لي كانت إلى مار شربل في عنايا.


في البلد، هناك آلاف الأشخاص الذين ليس لديهم سوى مشاريع جونية جبيل، ودورة كولا بربير، يعلقون على طرقاتها أكثر من مليون مسافر في المطار... ويتضرّعون إلى خالقهم ألّا تصيبهم ذبحة قلبية أو يغمى عليهم من جلجلة طرقاتهم اليومية إلى عمل لا يكفي معاشه ثمن مارتديلا لآخر يوم من الشهر.


في البلد، هناك آلاف الناس الذين لا يكترثون لذلّ وبهدلة في المطار، لأنّ أقصى أملهم ألّا يعلقوا يوماً كاملاً على شبابيك الضمان الاجتماعي ويُهان سرطانهم وضغطهم وديسكاتهم في انتظار تخليص ثمن دواء تناولوه منذ 8 أشهر.


في البلد، هناك شعب يسكن في شقق بلا بلكونات ولا واجهات ولا هواء يقتل رطوبة غرف النوم، هناك شعب يبحث عن مخترع لديجونكتور 2 أمبير وحنفية تنقّط تنقيط من كثرة الفواتير، وعن مدرسة لا ترى الطفل بقرة جحا.


ما حصل في المطار مخزي ومعيب ومهين بحق دولة وبحقّ شعب، لكنّ المطار يبقى ضيّقاً على المهاجرين والمنتشرين والمسافرين والميسورين، في حين أنّ البلد بأمّه وأبوه أصبح ضيّقاً على شعب بأكمله، الطوائف أصبحت ضيّقة، الأحزاب ضيّقة، الخدمات ضيّقة، البنى التحتية ضيّقة، طموحاتنا، آمالنا، معاشاتنا، ضرائبنا ضيّقة، الكهرباء والمياه والخدمات ضيّقة، كثير من الكراسي ضيّقة على جالسيها ووزارات ضيّقة على مفسديها، وزعامات ونيابات وقيادات ضيّقة على ناهبيها... البلد ضيّق لدرجة أنّه لم يعد بحاجة إلى سياسيين ومشرّعين، بل إلى خيّاطين يوسّعون دكّته أو يرحرحون سرواله ويشقّون قميصه.... البلد بحاجة إلى خياطة ليصبح على مقاس الناس وليس على مقاس السياسيين.


هي أصلاً الأزمات في البلد ماسكة عالدبكة، والمطار ليس سوى واحدة من عشرات الأزمات الممسكة بيد بعضها بعضاً وتتحرّك ركبها وأكتافها على وقع طبل الفساد... وغداً، تنتهي دبكة المطار ونعود نحن إلى طاولاتنا نمسح عرقنا، نرتشف كأس عرق أو كباية ماء، ونرتخي على كراسينا في انتظار الدبكة التالية حتى نتمرجل على بعض.