إنهيار الصيغة التي اقترحها الحريري بسبب تمسك التيار الوطني الحربالحصول على الثلث المعطّل، نقل البلاد من عقدة حكومية إلى أزمة دستورية وأزمة نظام سياسي
 

منذ إنتخابه رئيساً للجمهورية، دأب ميشال عون على القول إن عهده سيبدأ مع تشكيل أول حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية، هذه الانتخابات جرت في السادس من أيار الماضي، وتم تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة ، ولكن عون رفض يوم الاثنين الماضي صيغة للحكومة المقترحة، ليدخل البلد في نفق أزمة جديدة، بما يعني أن العهد الذي لم يبدأ بعد، سيطول الوقت قبل أن يبدأ، وبهذا ينتقل البلد من الفراغ الرئاسي الذي استمر عامين ونصف العام، إلى الفراغ الحكومي الذي قد يترك البلاد في إدارة حكومة تصريف أعمال رغم الظروف الدقيقة والخطرة التي تواجهها!

 

كان يمكن النظر إلى هذا من منطلق مسلسل الأزمات التي تضرب لبنان، على خلفية الانقسامات العميقة بين مكوناته السياسية، لكن انهيار الصيغة التي اقترحها الحريري بسبب تمسك "التيار الوطني الحر"بالحصول على الثلث المعطّل، نقل البلاد من عقدة حكومية إلى أزمة دستورية وأزمة نظام سياسي، من منطلق إثارة خلاف عاصف حول الدستور وصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في عملية تشكيل الحكومات!

لكن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية وأصبح دستوراً، واضح وصريح لجهة هذه الصلاحيات، التي طالما تعرّضت لانتقادات من الرئيس عون والتيار الوطني، على خلفية المطالبة بتعديلها، فالمادة 64 من الدستور تنص على أن رئيس الجمهورية يجري مشاورات نيابية ملزمة ويكلّف رئيس الوزراء، وعلى أن الرئيس المكلّف "يجري الاستشارات لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها"، وهذا نص واضح، فالتشكيل من صلاحيات الرئيس المكلّف حصراً، والتوقيع على مرسوم التشكيل من صلاحية الاثنين، بما يفرض وجود موافقة من رئيس الجمهورية على الصيغة المقترحة.

 

على ما يبدو هنا تدور ، نقطة الخلاف التي عصفت بالوضع وأدخلت البلاد في نفق الأزمة الدستورية المعقدة، فعندما خرج الحريري من اجتماعه الأخير مع عون، وقال إنه اقترح صيغة مبدئية لحكومة وحدة وطنية، تقوم على مبدأ أنه على كل الأفرقاء أن يقدموا تضحية بشكل ما، توصلا إلى التفاهم على التشكيلة التي تنتج حكومة متعاونة تستطيع مواجهة التحديات الكبيرة والمتصاعدة التي تواجه لبنان.

 

إقرأ أيضا : من أين يأتي النائب فضل الله بشهادات الفقه والإجتهاد؟!

 

 

وكان واضحاً أن الصيغة المقترحة، وضعت على الرف، لكن المفاجئ كان في البيان الذي صدر فوراً عن المكتب الإعلامي للقصر الجمهوري، والذي قال إن عون أبدى بعض الملاحظات حول الصيغة المقترحة "استناداً إلى الأسس والمعايير التي حددها لشكل الحكومة والتي تقتضيها المصلحة الوطنية"، بما يعني ضمناً أن ما حمله الحريري يتنافى مع هذه المعايير ومع المصلحة الوطنية.

لكن ليس في الدستور ما يعطي رئيس الجمهورية صلاحية "تحديد أسس ومعايير"يعطيها للرئيس المكلّف، وهكذا جاء بيان القصر الجمهوري ليؤجج الامتعاض من الحديث عن صلاحيات غير منصوص عنها دستورياً، ومن محاولات عون والتيار الوطني الحر في الأسابيع الماضية، تحميل الحريري مسؤولية تأخير عملية التشكيل، بينما يبدو من الواضح أن التأخير ناجم عن تمسّك عون والتيار الوطني بحصة تعطيهما الثلث المعطّل في الحكومة. بعد بيان عون الذي تحدّث عن "الأسس والمعايير الذي حددها لتشكيل الحكومة"، ارتفعت الأصوات من "دار الفتوى" إلى "تيار المستقبل" إلى عدد من القوى السياسية محذّرة: "لا تلعبوا بالدستور"! كلام "دار الفتوى" كان مباشراً وساخناً عندما اعتبرت أن المسألة ليست مسألة ملاحظات جوهرية أو غير جوهرية لرئيس الجمهورية، إنما هي وجود قوى سياسية تريد أن تشكّل لبنان على مقاسها ومقاس توجهاتها الإقصائية وتحجيم مجموعات أخرى. وأضاف البيان أن الكرة باتت الآن في ملعب رئيس الجمهورية، بعدما قام الرئيس المكلّف بواجباته، فهو حامي الدستور والأولى به أن يشكّل القاسم المشترك بين القوى كافة، فلا يكون مع هذا الفريق على حساب الآخرين، ويجب أن يكون ضمانة لكل الأفرقاء وهو رئيس الوزراء جميعاً لا رئيساً لفريق سياسي، بما يعني أن التأخير ليس من عند الحريري وإنما من عند عون و"التيار الوطني الحر". 

 

إقرأ أيضا : المعاقبون الثلاثة ومصير إدلب

 

 

الكلام السياسي أيضاً، رداً على بيان عون، جاء من رؤساء الوزراء السابقين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام عندما قالوا إن إشارة بيان عون إلى الأسس والمعايير، التي كان قد حددها لشكل الحكومة، هي إشارة في غير محلّها لأنها تستند إلى مفهوم غير موجود في النصوص الدستورية المتعلقة بتشكيل الحكومات في لبنان . وفي ردٍ مباشر على دراسة الوزير سليم جريصاتي قال البيان: "لقد سمعنا في الأسابيع الماضية طروحات سياسية وهرطقات دستورية تتعلق بتشكيل الحكومات وصلاحيات الرئيس المكلّف وصلاحيات رئيس الجمهورية، وتشكّل كلها اعتداءً صريحاً على أحكام الدستور، وتهدف إلى فرض أعراف دستورية جديدة". هذا في حين قال الحريري رداً على جريصاتي إنه لا أحد يحدد له مهلة التأليف إلا الدستور ولا تعنيه بشيء مطالعات دستورية يقدمها هذا الوزير أو ذاك، فهو الرئيس المكلّف وسيبقى ويشكّل الحكومة بالتعاون مع رئيس الجمهورية. نهاية الأسبوع الماضي، سئل الرئيس نبيه بري عن رأيه في الأجواء التي كانت قد أشارت إلى انفراجة قريبة في تشكيل الحكومة، فقال إنه «متشائل» وبعد انفجار الأمور بطريقة تنقل لبنان من عقدة حكومية إلى أزمة دستورية ساخنة، لم يكن غريباً أن يقول بري: "إن لبنان في العناية الفائقة والوضع الاقتصادي خطير جداً وعلى الجميع التواضع"، في إشارة إلى الشراهة الوزارية التي عرقلت التشكيلة الحكومية على خلفية حسابات سابقة لأوانها واضحة، لمح إليها عون عندما قال إن الوزير باسيل متقدّم على غيره في معركة رئاسة الجمهورية ، وذلك قبل 4 سنوات من نهاية العهد! انّ الاستحقاق الحكومي دخل مجدداً في نفق طويل، الى حد انه لم يعد في الأفق راهناً ايّ بصيص أمل بولادة حكومية قريبة، فالنزاع المبكر على الاستحقاقات الدستورية المقبلة، وهو نزاع في غير أوانه ويؤخّر تأليف الحكومة، يكاد يطغى على كل ما يُحكى من أسباب ومعوقات أو "كلمة سر" خارجية يقول كثيرون أنها لم تأتِ بعد، وهي تتحكّم بمصير الحكومة العتيدة .