ما يمكن أن يخلفه القرار الأميركي وقف تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» في مخيلة المرء من صور واحتمالات، لا يقل عن كارثة. فنحن نتحدث عن ستة ملايين متضررٍ، وربما أكثر، علماً أن حصة واشنطن تبلغ نحو ثلث موازنة «أونروا».

ستة ملايين فلسطيني يعيشون دون مستوى خط الفقر سينخفض تمويل فقرهم إلى الثلثين. والغريب أن القرار الأميركي حمل في تفسيراته قدراً مضاعفاً من التعسف. فالقول، وفي سياق الحديث عن فسادٍ في «أونروا» أن الوكالة تمول عيش أبناء اللاجئين الأُول وأحفادهم يدفع فعلاً إلى الذهول، ذاك أن صحة هذا الادعاء تفترض أن ابن اللاجئ وحفيده اللذين ولدا في الشتات كفا عن كونهما لاجئين، وتحولا مواطنين في بلدان الشتات، وأن تفترض أميركا ذلك، فهذا ليس ناجماً عن جهل، بل عن تعسف وعن ميل جنوني لخلط الأوراق.

القرار هو شرط سياسي جديد لا أحد جاهز للتعامل معه. المسألة تتعدى حرمان الوكالة من قدراتها الإغاثية، إلى حرمان اللاجئ من الشروط «الموقتة» للعيش. وهنا يبدو أن واشنطن باشرت مهمة جديدة تتمثل في الانقلاب على ستاتيكو «الهدنة»، واستباق التسوية السياسية بإجراءات كارثية غير محسوبة. فما يعنيه القرار من اعتبار اللاجئ الابن والحفيد «مواطناً» في بلد الشتات، غير واقعي إلى حد الجنون. هذا يعني في الأردن انقلاباً هائلاً في البنيتين الاجتماعية والسياسية للمملكة، وفي لبنان تغييراً للشرط الديموغرافي الوطني، وفي سورية حيث الحرب مستمرة في تبديل المشاهد لن يكون لهذا المواطن «الجديد» حصة باستثناء الموت الذي لا يوزع هناك بالعدل.

لكن القرار يُشبه إدارة دونالد ترامب في خروجه عن مألوف الأداء السياسي والديبلوماسي الأميركي، وهنا تماماً تكمن خطورته، فهذه الإدارة تمارس نزقاً مضاعفاً بما يتعلق بالقضية الفلسطينية. تتصرف بوصفها شركة استثمارية كبرى، فيما نحن ودولنا ومجتمعاتنا زبائنها الصغار المتطفلين على ثرواتها. نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس قرار فاق في «كرمه» توقعات تل أبيب. إسرائيل العميقة نفسها خافت من نتائجه، لكن ترامب ذهب به من دون هوادة ولا تردد. اليوم، جاء دور اللاجئين. القرار بتحويلهم «مواطنين» غير واقعي إلى حد الجنون، وسيدفعون هم أثمانه قبل أن تدفع الدول المضيفة هذه الأثمان. لكن القرار اتخذ والإدارة ستباشر تنفيذه، ولا يبدو أن شيئاً سيدفعها إلى مراجعته. فترامب يشعر بأن العالم كله يعيش عالة على بلده، ومن قرر أن يرفع الجمارك في وجه أوروبا وأن يلوح بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، لن يتردد في أن يوقف دعم «أونروا» وفي أن يحرم ملايين قليلة من البشر من أدنى شروط العيش.

والكارثة الموازية تتمثل في أن ترامب يدرك عجز العالم عن ردم الهوة الناجمة عن تخلي واشنطن عن مسؤولياتها. الغرب كله وقف في وجه قرار الرئيس الأميركي نقل السفارة إلى القدس، لكنه عجز عن إقناعه. جزء كبير من إسرائيل نفسها خاف من فائض القوة الذي يمكن أن يشعره به بنيامين نتانياهو نتيجة القرار، إلا أن ذلك لم يعن شيئاً للرئيس.

الخوف من اختلالٍ موازٍ لهذا الاختلال الكبير صار أمراً واجباً. مئات آلاف الفلسطينيين خارج المدارس وخارج رعاية الحد الأدنى التي تؤمنها «أونروا» سيضيف إلى أسباب الحروب في المنطقة سبباً كان جرى ضبطه في العقود الفائتة. إدارة ترامب لا تفكر على هذا النحو. هي شركة قابضة لا تمارس السياسة. الأرقام بالنسبة إليها هي الحقائق وليس أحوال الناس والمجتمعات. الممكن بالنسبة إليها هو ما تشير إليها به الأرقام. فبالنسبة إليها وقف دعم «أونروا» سيدفع الدول المضيفة إلى قبول اللاجئين مواطنين فيها. وهذا لا يعني أن الشركة تستبعد الحروب بصفتها نتائج لسياساتها هذه، إلا أن الحروب أيضاً أرقام موازية، والقتلى وأعدادهم أيضاً يمكن إدخالهم إلى مقاصة الشركة القابضة بصفتهم أثماناً لا يمكن تفاديها لكي يحقق الاستثمار أرباحاً.