هذا نص رأي عالمي الشيعة الكبيرين المرحوم السيد المرتضى وشيخ الطائفة الشيخ الطوسي رضوان الله عليهما الذي أظهراه قبل عشرة قرون في حلِّ لغز ثورة الإمام الشهيد الحسين (ع)
 

قرأت كتاب "الشهيد الخالد" للفقيه نعمت الله صالحي نجف آبادي،الذي ينقل رأي العالمين الكبيرين السيد المرتضى والشيخ الطوسي قدس سرهما، حول ثورة الإمام الحسين (ع).. (مسألة): "فإن قيل : قد بينتم أعذار الإمام الحسن (ع)، فما أعذار الإمام الحسين (ع)، لأنه فعل ضدَّ ما فعله وكيف يمكنكم الجمع بين أفعالهما؟                                                     

ـ 1 ـ  ما العذر في خروجه من مكة بأهله وعياله إلى الكوفة المستولي عليها أعداؤه، والمتأمِّرُ فيها من قِبَل يزيد منبسط اليد والأمر والنهي، وقد رأى عليه السلام صنيع أهل الكوفة بأبيه وأخيه، وأنهم غدَّارون خوَّانون..؟                                                                   

ـ 2 ـ وكيف خالف ظنُّه ظنَّ جميع أصحابه في الخروج، لأن ابن عباس أشار بالعدول عن الخروج وقطع على العطب فيه، وابن عمر لما ودعه يقول: أستودعك الله من قتيل، وأخوه محمد بن الحنفيَّة مثل ذلك إلى غير ما ذكرناه ممن تكلم في هذا الباب..؟                         

ـ 3 ـ ثم لما علم بقتل "مسلم بن عقيل" وقد أنفذه رائداً له، كيف لم يرجع وقد علم الغدر من القوم وتفطن بالحيلة والمكيدة..؟                                                                     

ـ 4 ـ ثم كيف استجاز أن يحارب بنفر قليل لجموع عظيمة خلفها، لها مواد كثيرة..؟             

ـ 5 ـ ثم لما عرض عليه ابن زياد الأمان وأن يبايع يزيد، كيف لم يستجب حقناً لدمه ودماء مَن معه من أهله وشيعته ومواليه؟. ولِمَ ألقى بيده إلى التهلكة وبدون هذا الخوف سلَّم أخوه الحسن (ع) الأمر إلى معاوية، فكيف يجمع بين فعليهما بالصحة..؟                             

قيل لهم (الجواب) :                                                                                   

ـ أ ـ قد علمنا أن الإمام متى غلب على ظنه أنه يصل إلى حقِّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك وإن كان فيه ضرب من المشقة يُتحمَّلُ مثلها تَحَمَّلَها، وأبو عبدالله (ع) لم يَسِر طالباً الكوفة إلا بعد توثُّقٍ من القوم وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه (ع) طائعين غير مكرهين ومبتدئين غير مجيبين... وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرائها، تقدَّمت إليه في أيام معاوية وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن (ع) فدفعهم وقال في الجواب ما وجب، ثم كاتبوه بعد وفاة الحسن (ع) ومعاوية باق فوعدهم ومنَّاهم، وكانت أياماً صعبة لا يُطمع في مثلها.. فلما مضى معاوية وأعادوا المكاتبة بذلوا الطاعة وكرَّروا الطلب والرغبة، ورأى (ع) من قوَّتهم على من كان يليهم في الحال من قبل يزيد، وتسلّحهم عليه وضعفه عنهم، ما قوَّى في ظنه أن المسير هو الواجب، تعيَّن عليه ما فعله من الإجتهاد والتسبب، ولم يكن في حسابه أن القوم يغدر بعضهم، ويضعف بعضهم عن نصرته ويتَّفق بما اتفق من الأمور الطريفة الغريبة.. فإن "مسلم بن عقيل" لما دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها، ولما وردها "عبيد الله بن زياد" وقد سمع بخبر مسلم ودخوله الكوفة وحصوله في دار "هانئ بن عروة المرادي" على ما شُرِحَ في السِّيَر، وحصل "شريك بن الأعور" بها جاءه ابن زياد عائداً وقد كان شريك وافق مسلم بن عقيل على قتل ابن زياد عند حضوره لعيادة شريك، وأمكنه ذلك وتيسَّر له، فما فعل واعتذر بعد فوت الأمر إلى شريك بأن ذلك فتكٌ، وأن النبي (ص) قال: "إنَّ الإيمان قَيَّدَ الفتك".. ولو كان فعل مسلم بن عقيل من قتل ابن زياد ما تمكن منه، ووافقه شريك عليه لبطل الأمر، ودخل الحسين (ع) الكوفة غير مدافع عنها، وحَسَرَ كل أحد قناعه في نصرته، واجتمع له من كان في قلبه نصرته وظاهره مع أعدائه.. وقد كان "مسلم بن عقيل" أيضاً لما حبس "ابن زياد" "هانئاً" سار إليه في جماعة من أهل الكوفة، حتى حصره في قصره، وأخذ بكظمه، فأغلق "ابن زياد" الأبواب دونه خوفاً وجبناً حتى بثَّ الناس في كل وجه يرغَّبون الناس ويرهِّبونهم ويخذَّلونهم عن ابن عقيل، فتقاعدوا عنه وتفرَّق أكثرهم حتى أمسى في شرذمة، ثم انصرف وكان من أمره ما كان...

وإنما أردنا بذكر هذه الجملة أن أسباب الظفر بالأعداء كانت لائحة متوجهة، وأن الإتفاق السيِّئ هو الذي عكس الأمر وقلبه حتى تمَّ فيه ما تمَّ.. وقد همَّ أبو عبدالله (ع) ـ لما عرف بقتل مسلم بن عقيل، وأُشر عليه ـ بالعود، فوثب إليه بنو عقيل وقالوا: والله لا ننصرف حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أبونا. فقال (ع): لا خير في العيش بعد هؤلاء. ثم لحقه "الحر بن يزيد" ومن معه من الرجال الذين أنفذهم "ابن زياد"، ومنعه من الإنصراف، وسامه أن يقدمه على "ابن زياد" نازلاً على حكمه، فامتنع. ولما رأى أن لا سبيل له إلى العود ولا إلى دخول الكوفة، سلك طريق الشام سائراً نحو يزيد بن معاوية لعلمه (ع) بأنه على ما به أرأف من "ابن زياد" وأصحابه، فسار (ع) حتى قدم عليه "عمر بن سعد" في العسكر العظيم، وكان من أمره ما قد ذكر وسطر..     

إقرأ أيضًا:    الإمام موسى الصدر: رواية أم مؤامرة!

 

فكيف يُقال: إنه ألقى بيده إلى التهلكة؟ وقد رُوِيَ أنه (ع) قال لعمر بن سعد: اختاروا مني:     

1ـ أما الرجوع إلى المكان الذي أقبلت منه..                                                       

2ـ أو أن أضع يدي في يد يزيد ابن عمي ليرى فيَّ رأيه..                                        

3ـ وإما أن تسيروني إلى ثغر من ثغور المسلمين، فأكون رجلاً من أهله لي ما له وعَليَّ ما عليه. 

وإن "عمر" كتب إلى "عبيد الله بن زياد" بما سئل فأبى عليه وكاتبه بالمناجزة وتمثل بالبيت المعروف وهو: (الآن قد علقت مخالبنا به/ يرجو النجاة ولات حين مناص)، فلما رأى (ع) إقدام القوم عليه وأن الدين منبوذٌ وراء ظهورهم وعلم أنه إن دخل تحت حكم ابن زياد تعجل الذل وآل أمره من بعد إلى القتل، التجأ إلى المحاربة والمدافعة بنفسه وأهله ومَن صبر من شيعته، ووهب دمه ووقاه بنفسه. وكان بين إحدى الحُسنَيين: إما الظفر فربما ظفر الضعيف القليل، أو الشهادة والميتة الكريمة..

ب ـ وأما مخالفة ظنه (ع) لظن جميع من أشار عليه من النصحاء كابن عباس وغيره، فالظنون إنما تغلب بحسب الإمارات، وقد تقوى عند واحد وتضعف عند آخر. ولعل ابن عباس لم يقف على ما كوتب به (ع) من الكوفة، وما تردَّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق، وهذه أمور تختلف أحوال الناس فيها ولا يمكن الإشارة إلا إلى جملتها دون تفصيلها.. فأما السبب في أنه (ع) لم يعد بعد قتل مسلم بن عقيل، فقد بينا وذكرنا أن الرواية وردت بأنه (ع) همَّ بذلك، فمنع منه وحيل بينه وبينه..  
                              

ج ـ فأما محاربة الكثير بالنفر القليل، فقد بينا أن الضرورة دعت إليها وأن الدين والحزم ما اقتضى في تلك الحال إلا ما فعله..

د ـ ولم يبذل "ابن زياد" لعنة الله عليه من الأمان ما يوثق بمثله. وإنما أراد إذلاله والغضِّ من قدره بالنزول تحت حكمه، ثم يفضي الأمر بعد الذلِّ إلى ما جرى من إتلاف النفس. ولو أراد به (ع) الخيرَ على وجه لا يلحقه فيه تبعة من الطاغية يزيد، لكان قد مكَّنه من التوجُّه نحوه واستظهر عليه بمن ينفذه معه. لكن التراث البدرية والأحقاد الوثنية ظهرت في هذه الأحوال.. وليس يمتنع أن يكون (ع) في تلك الأحوال مجوِّزاً أن يفيء إليه قوم ممن بايعه وعاهده وقعد عنه، ويحملهم ما يرون من صبره واستسلامه وقلَّة ناصره على الرجوع إلى الحق دِيناً أو حميَّةً، فقد فعل ذلك نفرٌ منهم حتى قتلوا بين يديه شهداء. ومثل هذا يُطمعُ فيه ويُتوقَّعُ في أحوال الشدَّة.. 

فأما الجمع بين فعله (ع) وفعل أخيه الحسن (ع) فواضحٌ، لأن أخاه (ع) سلَّم كفَّاً للفتنة وخوفاً على نفسه وأهله وشيعته، وإحساساً بالغدر من أصحابه. والحسين (ع) لما قَوِيَ في ظنه النصرة ممن كاتبه وتوثَّق له، ورأى من أسباب قوة أنصار الحق وضعف أنصار الباطل ما وجب عليه الطلب والخروج، فلما انعكس ذلك وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الإتفاق رام الرجوع والمكافَّة والتسليم كما فعل أخوه، فمنع من ذلك وحيل بينه وبينه، فالحالان متَّفقان، إلا أن التسليم والمكافَّة عند ظهور أسباب الخوف لم يُقبلا منه، ولم يُجَب إلى الموادعة، وطُلِبَ نفسه (ع) فَمَنَعَ منها بجهده حتى مضى كريماً إلى جنة الله ورضوانه....." 

(تنزيه الأنبياء، للسيد المرتضى، ص 179 إلى 182. وتلخيص الشافي للشيخ الطوسي، ج 4، ص 182 ـ 188، باختلاف يسير بينهما).. كان ذلك نص رأي عالمي الشيعة الكبيرين المرحوم السيد المرتضى وشيخ الطائفة الشيخ الطوسي رضوان الله عليهما الذي أظهراه قبل عشرة قرون في حلِّ لغز ثورة الإمام الشهيد الحسين (ع)...