عندما خاطب العقيد معمر القذافي الشعب الليبي الثائر على حكمه "من أنتم؟"، لم تأتِ تلك الصرخة أو الخطاب من فراغ، وهو الذي تمسك بالحكم ما يقارب أربعة عقود، والذي لم يتمرد في خلالها أو يخرج على نظام حكمه أحد من قبل. مرّ القذافي خلال فترة حكمه قبل ثورة 17 فبراير/شباط 2011 بالكثير من الأزمات والصراعات الداخلية والخارجية، كان جلّها من صنعه أو صنع نظامه.  

ففي عام 1969 قاد انقلاب على حكم الملك "إدريس السنوسي"، دعمه فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وسميت آنذاك بثوره "الفاتح من سبتمبر"؛ وفي عام 1973 جرى إلغاء الدستور، وأوقف العمل بكافة القوانين، وتجريم إنشاء الأحزاب، إلى أن أعلن القذافي بعدها في عام 1977 ما يعرف بسلطة الشعب (أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه).

تعرض القذافي في عام 1984 لمحاولة اغتيال في باب العزيزية في طرابلس من قبل الإسلاميين بقيادة محمد المقريف "الجبهة الليبية للإنقاذ". وبسبب مواقف القذافي الخارجية في دعم "حركة التحرر الوطني"، فقد قامت أميركا بفرض حصار اقتصادي على ليبيا في عهد الرئيس رونالد ريغان عام 1979. وتطور الأمر إلى أن وجهت أميركا ضربة جوية في عام 1986، واستمرت تلك العقوبات حتى عام 1999، بالإضافة إلى حروبه مع تشاد وأوغندا والإضرار بمصالح الغرب في أفريقيا، وخصوصاً الدول الناطقة بالفرنسية (الدول الفرانكفونية)، وذلك عندما أسس ودعم مشروع الفرنك الأفريقي لمحاربة العملات الدولية الأخرى، ما استدعى تدخل فرنسا في بداية الثورة الليبية.

كان سيف الإسلام القذافي وبرنامجه الإصلاحي في عام 2007 بارقة أمل لكثير من الشباب الليبي، لخروج ليبيا من العقوبات الاقتصادية، مع إصلاح سياسي واقتصادي بعد أزمة "لوكربي" والتي دفعت ليبيا بموجبها لأقارب الضحايا مليارين و700 مليون دولار، لكن سيف الإسلام اصطدم بالحرس القديم لنظام والده الذي يضم كبار رؤساء اللجان الثورية والشعبية.

إذا أردنا دراسة تاريخ ليبيا الحديث والمراحل التي مرت بها، فإنها تقسّم إلى أربع: المرحلة الأولى هي ثورة 17 فبراير/شباط 2011. أما الثانية فكانت المرحلة الانتقالية بعد مقتل القذافي. ثم تلتها ثالثاً الصراعات بين الفصائل المختلفة والمدعومة خارجياً. والمرحلة الرابعة هي الحل الدولي (اتفاق الصخيرات).

لم تكن ليبيا بعيدة عن ثورات الربيع العربي، التي كانت شرارتها الأولى في تونس (ثورة الياسمين) الجارة الغربية لليبيا. فقد بدأت الثورة في شرق ليبيا في مدينتي "البيضاء وبنغازي"، مطالبة بإصلاح اقتصادي، ثم تطورت إلى المطالبة بإسقاط النظام بعد محاولة قمعها من قوات هذا النظام. وخلال ثلاثة أيام من المواجهات، أصبحت المنطقة الشرقية (البيضاء وبنغازي) خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية بطرابلس في 17 فبراير/شباط 2011. بعدها في 28 فبراير/شباط 2011، جرى الإعلان عن تأسيس المجلس الانتقالي بقيادة مصطفى عبدالجليل الذي اتخذ من بنغازي مقراً له. وكانت فرنسا وقطر أول من اعترف بهذا المجلس. ثم استمرت المواجهات بين الشباب الثائر وقوات القذافي في "طرابلس والزاوية ومصراتة والزانتان" لثمانية أشهر بدعم من حلف "الناتو". وفي 12 مارس/آذار من العام 2011، عُقدت قمة عربية طلبت من مجلس الأمن التدخل لحماية الشعب الليبي. وفي 17 آذار 2011 اجتمع مجلس الأمن وقرر فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا بقرار أممي رقم 1973، حيث قامت كلٌّ من القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية بتوجيه ضربات جوية وصاروخية مباشرة لقوات القذافي التي كانت على مشارف بنغازي، وكانت تقدر بـ 60 ألف مقاتل وسط انشقاقات كان أبرزها انشقاق وزير الخارجية الليبي ومسؤول الأمن الليبي الخارجي سابقاً، موسى كوسا، ووزير النفط شكري غانم. وفي 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، جرى اغتيال القذافي، وبعد ذلك بثلاثة أيام في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، أعلن مصطفى عبدالجليل تحرير ليبيا بالكامل، وانتقل بعدها المجلس الوطني من شرق ليبيا إلى طرابلس.

وفي 7 يوليو/تموز 2012، كانت بداية المرحلة الانتقالية، فجرت في ليبيا أول انتخابات حرة لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني العام البالغ 200 عضو، وأسفرت عن فوز التحالف الوطني بقيادة محمود جبريل الذي يضم مجموعة من الأحزاب، واختير الدكتور محمد المقريف رئيساً للمؤتمر الوطني العام (البرلمان) وعبد الرحيم الكيب رئيساً للوزراء. واستمرت الحكومة سنة واحدة أنفق فيها 60 مليار دولار. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2013، تولى علي زيدان رئاسة الوزراء الذي تعرض آنذاك للاختطاف على يد مجموعة مسلحة في طرابلس. وخلال المرحلة الانتقالية في 20 أبريل/نيسان 2014، جرى تشكيل لجنة لإعادة صياغة الدستور مكوّنة من 60 عضواً.

بعدها دخلت الفصائل الليبية في صراعات مسلحة، عندما أعلن خليفة حفترعن قيام "عملية الكرامة" في 16 مايو/ايار 2014 لتطهير المنطقة الواقعة من بنغازي إلى طبرق، من "القاعدة" و"مجلس شورى بنغازي ودرنة"، الأمر الذي دفع بمجموعة من الإسلاميين بكتائبهم المسلحة إلى السيطرة على طرابلس وطرد قوات الزنتان الموالية لحفتر. ونقل البرلمان المنتخب في 2014 والذي خسر فيه الإسلاميون إلى مدينة طبرق، لكون مدينة بنغازي غير آمنة، الأمر الذي رفضه رؤساء الكتائب الإسلامية في المنطقة الغربية. بعدها دخلت ليبيا في صراعات بين حكومة طبرق (المنتخبة) عام 2014 وحكومة 2012 (المنتهية صلاحيتها) والرافضة تسليم السلطة مع تدخل العديد من الأطراف الإقليمية والدولية لدعم طرف دون الآخر. وبالنظر إلى المشهد الليبي الحالي، نلاحظ أن المنطقة الشرقية من "امساعد" المنفذ البري مع مصر شمالاً إلى "بن جواد والكفرة" جنوباً والحدود مع مصر والسودان وجزء من تشاد، تقع تحت سيطرة خليفة حفتر مع الحكومة الليبية المؤقتة ومقرها طبرق ورئيس الوزراء عبدالله الثني ورئيس البرلمان عقيلة صالح بدعم من مصر والإمارات. أما المنطقة الغربية والجنوبية من بن جواد غرباً إلى "رأس جدير" المنفذ البري مع تونس، تحت سيطرة حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، وتضم كذلك منطقة الجفرة وسبها حتى الحدود مع النيجر وتشاد وتونس والجزائر بدعم من إيطاليا وبريطانيا وفرنسا. أما المجلس الأعلى في ليبيا فيضم غالبية الفصائل الإسلامية بدعم من تركيا وقطر.

أما منطقة الهلال النفطي الليبي من الزويتينة إلى زليطن جنوباً إلى سرت غرباً، فقد انتزعها حفتر أخيراً من أمن حرس المنشآت النفطية بقيادة إبراهيم الجضران.

وفي خضم الصراعات المسلحة والتجاذبات السياسية، خرج اتفاق الصخيرات في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015 في المغرب برعاية الأمم المتحدة بإشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر (ليؤسس لانتقال سياسي سلمي لإنهاء الانقسام والفوضى بين أطراف الصراع في ليبيا بعد إطاحة نظام معمر القذافي). وينص الاتفاق على تشكيل حكومة وفاق وطني يترأسها السيد فائز السراج رئيساً للوزراء وقائداً للقوات المسلحة خلال المرحلة الانتقالية لمدة عامين، تنتهي بإجراء انتخابات تشريعية وبرلمانية. ومن ضمن مخرجات الاتفاق أيضاً الاعتراف ببرلمان طبرق برئاسة عقيلة صالح، والمجلس الأعلى للدولة الذي يضم مجموعة من الإسلاميين.

ليبيا على الرغم من تنوعها الديموغرافي من عرب وبربر وتبو وطوارق، إلا أن النسيج الاجتماعي متماسك إلى حد ما. ومن المستبعد قيام ثورة أخرى أو رجوع الوجوة القديمة في نظام القذافي، أو مطالبة بعض المناطق الانفصال عن ليبيا. فقد تكون أطراف عربية وغربية لا تريد الاستقرار لليبيا. فاستقرار ليبيا وانتخابات مؤسساتها هو استرداد الأموال المنهوبة من قبل نظام القذافي من البنوك وسهولة تصدير البترول الليبي المنافس لقربه من الأسواق الأوروبية.

وعلى ما يبدو، فإن جميع الأطراف المتنازعة على الساحة الليبية لا تريد تطبيق اتفاق الصخيرات، حتى وإن أجبروا على التوقيع، لما تمثله جميع الفصائل الليبية من مصالح ونفوذ لقوى إقليمية وغربية، واستمرار هدر المال العام. فقد كان يقدر الاحتياط الليبي في البنك المركزي بـ 200 مليار دولار، أما حالياً فانخفض إلى 60 مليار دولار. فليبيا تحتاج إلى توافق ورغبة دولية لتطبيق اتفاق الصخيرات في الفترة المقبلة. ومن المزمع إجراء انتخابات لاختيار أعضاء البرلمان ورئيس الدولة في ديسمبر/كانون الأول المقبل، على الرغم من وجود بعض الاختلافات على المادة الثامنة من قانون الانتخابات 2012، التي تمنع مزدوجي الجنسية من الترشح لرئاسة الدولة. إضافة إلى الخلاف على توحيد الجيش الليبي وكيفية الاستفتاء على الدستور المتحفَّظ عليه من قبل برلمان طبرق.

(خالد الربيع)