المقصود باللبننة ليس الهوية اللبنانية بطبيعة الحال إنما الهوية السياسية، أي اللبننة بالمفهوم والبعد السياسيين لجهة إعطاء الأولوية للحيّز اللبناني لا الإقليمي، وتبنّي مفهوم حياد لبنان.
 

في عزّ الخلاف والصدام إبّان الحرب اللبنانية التي شهدت انقساماً وخلافاً مسيحياً - إسلامياً، كان الشاعر الكبير سعيد عقل يقول انّ «المسلم اللبناني يختلف عن المسلم العربي»، ويستطرد في الكلام انّ مساحة الحرية في لبنان والاختلاط مع المسيحيين أدخلا بُعداً او لمسة لبنانية على النمط الاجتماعي والثقافي للمسلمين، وانّ هذا المسار لا بد من ان يقود عاجلاً أم آجلاً إلى تبديل في أولويّاتهم السياسية من سياسة تبدّي المشاريع الإقليمية إلى سياسة تبدّي المشاريع اللبنانية.


ولكن هذا المنطق لم يكن مفهوماً ولا مسموعاً آنذاك، لأنّ الوجدان السني كان مشدوداً إلى القضايا الإقليمية ولا يعترف بنهائية كيانات، ويعتبر لبنان ساحة من ساحات المواجهة من قبيل انّ فتح الحدود امام الثورة الفلسطينية واجب وضرورة، وانّ الوجود السوري في لبنان هو وجود داخلي وليس قوة احتلال وطبيعي جداً، فالجيش السوري موجود بهذا المعنى في بلده، وإلى ما هنالك من قضايا تؤشّر إلى خلاف بنيوي في الرؤية والنظرة.


والمسألة هنا ليست إرادية، بمعنى انّ هذه المواقف ليست رداً على مواقف أخرى ولا علاقة لها بمناكفات ونزاعات داخلية، بل نابعة من مشاعر حقيقية وأحاسيس فعلية وانتماء ديني- سياسي، والتعامل معها يجب ان يكون على هذا الأساس، أي السعي الى تنظيم الخلاف إنطلاقاً من احترام كل فئة لرؤية الفئة الأخرى.


ومَن كان يتوقع مثلاً هذا التحول الكبير في الوجدان السني اللبناني وانتقاله من تبدية القضايا الإقليمية إلى تبدية القضية اللبنانية؟ فهذا التحول كان أشبه بحلم أو رهان في غير محله، لكنّ مجموعة عوامل واعتبارات خارجية وداخلية أدّت مع الوقت إلى تحقيق نبوءة سعيد عقل بتكامل البُعدين الاجتماعي والسياسي، والتي ترجمها او توّجها لاحقاً الرئيس فؤاد السنيورة بمقولته التاريخية «14 آذار صالحت السنّة مع لبنانيتهم والمسيحيين مع عروبتهم».


والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه: من قال انّ ما تحقق سنياً لا يمكن ان يتحقق شيعياً، خصوصاً انّ الانشداد التاريخي للشيعة كان في اتجاه لبنان لا قضايا المنطقة؟ ومن قال انّ توافر ظروف داخلية وخارجية لا يؤدي مع الوقت إلى تبدية الأولويات اللبنانية على الأولويات الإقليمية؟ ومن قال انّ انتقال الدور الإيراني من الحربي - التوسعي إلى السلمي لا ينعكس على «حزب الله» ودوره الإقليمي وأولوياته الخارجية؟


فالأدبيات السياسية التي يستخدمها «حزب الله» اليوم هي نفسها كانت مستخدمة لدى المرجعيات السنية الدينية والسياسية، والفوارق إذا وجدت هي شكلية لا جوهرية، وردود الفعل الشعبية هي نفسها أيضاً، والخلاف لم يكن ابن ساعته بل بدأ ربما قبل مؤتمرات الساحل وتفجّر في ثورة محدودة في العام 1958 وحرب شاملة في العام 1975، وعلى رغم كل ذلك حصل التحوّل الذي لم يكن في الحسبان.


ثمة وجهة نظر تقول انه لو أقدمت المارونية السياسية على تعديل النظام السياسي تحقيقاً للشراكة التي لم تكن محققة، لكان أمكن تفادي الثورة والحرب، ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول انّ المسألة لا علاقة لها بالصلاحيات والشراكة، إنما تتصل بالانتماء إلى ما هو أكبر من لبنان، وبالتالي لو عدلّت الصلاحيات لكانت استخدمت في مزيد من تسريع ربط لبنان بمشاريع المنطقة.


ويجب الإقرار انّ المشاريع الكبرى بدأت تتهاوى تدريجاً مع هزيمة العام 1967 ووفاة الزعيم جمال عبد الناصر، وخروج الزعيم ياسر عرفات من لبنان، وسقوط الزعيم صدام حسين، ودخول طهران الى الساحات العربية. كما يجب الإقرار انّ انتقال الزعامة في العالم العربي والإسلامي إلى السعودية ساهم في تعزيز الجانب الكياني لدى السنة، لأنّ الرياض مؤمنة أساساً بنهائية الكيانات وضرورة تعزيزها وتثبيتها وترسيخها.


ويجب الإقرار أيضاً انّ دور «حزب الله» مرتبط بثلاثة أبعاد أساسية: بُعد تاريخي اجتماعي ـ سياسي، بُعد ديني ـ عقائدي، وبُعد إيراني يشكّل الرافد والرافعة للبعدين الأولين. وبالتالي، أي تحوّل في الدور الإيراني سينعكس تلقائياً على دور الحزب الذي لا بد في المقابل من ملاحظة التطور في بنيته السياسية - الاجتماعية بين مرحلة التأسيس واليوم، وانتقاله من العقائدية التي تَعلو ولا يُعلى عليها، إلى العقائدية التي تتداخل فيها نسبة معينة من البراغماتية والواقعية.


لا يمكن الحديث اليوم عن تخلّي «حزب الله» عن مشروعه وأولوياته، ولكن يمكن ملاحظة الفارق بين البدايات واليوم، فضلاً عن انّ أحد عناصر قوته يكمن في التفاف بيئته حوله، هذه البيئة التي تفرض عليه اتجاهاته وخياراته، فبعد العام 2006 لم تعد بيئته متحمّسة للحرب مع إسرائيل وتدمير رزقها ومنازلها، وفي المرحلة الأخيرة لم تعد قادرة على السكوت على وضعها الاقتصادي والاجتماعي والفساد المستشري، وفي المرحلتين تقدمت أولوية «حب الحياة» بفعل العدوى اللبنانية.


ولاكتمال مسار اللبننة، يجب ان تنتفي العوامل الخارجية المؤثرة على «حزب الله»، وتقترب بيئة الحزب أكثر فأكثر في اتجاه مشروع الدولة، وما يحصل في طهران اليوم إن من خلال العقوبات او النقمة الشعبية على سياسة النظام، لا بد من أن يقود إلى تغيير وتبديل في السياسة الخارجية عاجلاً أم آجلاً، وأي تحوّل خارجي لا بد من أن ينعكس داخلياً، فيما لا يمكن تجاهل سياسة الحفاظ على الاستقرار التي ينتهجها الحزب في السنوات الأخيرة واضطراره إلى مزيد من الانخراط في الدولة تجسيداً لتطلعات بيئته، وفي اللحظة التي ستجد فيها هذه البيئة أنّ مصالحها الحيوية ودورتها الاقتصادية مرتبطة بالدولة ستصبح أكثر حرصاً على الدولة من أي شيء آخر.


ليس هناك من شيء مستحيل، وما تحقق مع السنّة سيتحقق مع الشيعة، وهذا لا يعني ان أصحاب فكرة التحييد هم على حق، إنما منطق الأمور في كل العالم هو ان لا أولوية تعلو على أولوية البلد وسيادته واستقلاله ومصالح شعبه الحيوية، كما لا أولوية تعلو على استقراره ورفاهية شعبه وحقه في الحياة الحرة والآمنة والكريمة.