فجأة تصدرت القضايا المتمحورة حول تلوث نهر الليطاني بعد سنوات من الإهمال الممنهج، وانتشاء الوزارات والمؤسسات المعنية بتحول المشكلة إلى كارثة على مستوى الوطن، عناوين النشرات الاخبارية والصحف المحلية. سُمّي الملوثون بأسمائهم، سُطرت الإنذارات بحق المخالفين، وأشير بالأصابع إلى المسؤولين عن إيجاد حلول جذرية لنهرٍ كان يعتبر ثروة وطنية قبل أن تغزوه التعديات بغطاء سياسي.

يصف البعض هذه الإجراءات التي تدأب المصلحة الوطنية لمياه الليطاني بشخص مديرها العام سامي علوية على تنفيذها بشكل دوري مؤخراً بـ"الاستفاقة المتأخرة"، و يقول مرجع بيئي "مات النهر، وما عادت تنفع مع نسب التلوث التي وصلت إليها مياه الليطاني أي إصلاحات"... 

فما سر هذه الاستفاقة المفاجئة لمصلحةٍ اعتدنا اتباعها سياسة النأي بالنفس منذ انشائها في آب 1954، عن علّة خلقها "الليطاني"، وهل ستصلح، رغم تأخرها، ما أفسدته سنوات الفساد والإهمال السياسي لقضية تلوث الليطاني؟

يرى المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية ان الملوِث هو مواطن، بلدية، مصنع، مؤسسة وجهة إدارية لا تقوم بدورها. وأن تعدد المسؤوليات وضياعها هو من أوصل الليطاني الى ما هو عليه اليوم، و"الكل كان مستفيداً من هذا الضياع وفي مقدمتهم المصلحة".

حمل علوية، الذي يربط المتابعون الاستفاقة باستلامه إدارة المصلحة في 26 آذار الماضي، مرسوم تعيينه في 15 شباط الماضي، والقانون 63 الصادر في تشرين الأول 2016، الذي عدل من مهام المصلحة وأولاها مهمة الحوكمة، أي تنسيق الجهود المتعلقة برفع التلوث عن الليطاني، وبعد ذلك إدارة حوض نهر الليطاني، وقانون المياه الصادر في نيسان 2018، الذي تنص المادة 87 منه على استثمار الموارد المائية وحمايتها، ومضى في حربه في مكافحة تلوث الليطاني.

وكانت هذه الأشهر الخمسة كفيلة بوضع قضية تلوث الليطاني على سكة المكافحة بشكل جدي، ويعدد علوية باختصار في حديث خاص لـ"ليبانون ديبايت" التدابير التي قامت بها المصلحة خلال هذه الفترة: "بدأنا مع الجهات المسؤولة عن رفع التلوث، فأرسلنا كتب لوزارات الطاقة، البيئة، الصناعة، والزراعة، ولمجلس الانماء والاعمار، لاستصراحهم حول كيفية انفاق الاعتمادات التي حصلوا عليها لعامي 2017 و2018 ، وبرامج عملهم لانفاق هذه الاعتمادات، ومكافحة التلوث، لكن لم نحصل على رد".

علماً أن القانون رقم 63 يخصص اعتماد اجمالي قدره 1100 مليار ل.ل للقيام بالمشاريع اللازمة لمكافحة التلوث في منطقة حوض نهر الليطاني من النبع الى المصب، موزعة على 7 سنوات. حصلت حتى الآن وزارة الطاقة على 100 مليار في الـ2017 و150 مليار عن الـ2018، وزارة الصناعة على 5 مليار، وزارة الزراعة على 5 مليار، وزارة البيئة على 6 مليار، أي ما يعادل 266 مليار عن العامين 2017 و 2018.

وبعد الانتهاء من استصراح الوزارات والمؤسسات المعنية، توجهت المصلحة للجنة المكلفة مواكبة رفع التلوث عن بحيرة القرعون، وطالبت بتحسين عملها، وتجدر الإشارة إلى أن الاجتماع الأخير لهذه اللجنة لم يكن على قدر التوقعات، إذ اوصت بتشكيل لجنة أخرى، شكك ببراءة تشكيها علوية كونها "قد تمنح مهل مبطنة للمصانع والمعامل الملوِثة، بينما القانون يسمح بمكافحة الملوثين بشكل مباشرة ومن دون مواربة". كما تغيّب عن الاجتماع كلاً من وزيري العدل والداخلية وهما المعنيان بدفع القوى الأمنية لملاحقة المعتدين وإصدار الاحكام القضائية بحقهم. 

لم يتوقف مجهود المصلحة هنا، فتابعت مع الجهات المانحة المواكبة لعملية تلوث الليطاني وفي مقدمتها البنك الدولي، وطالبتهم بضرورة تنسيق الجهود، وتعاونت مع الأخير في إطار إعداد دفتر شروط لجهة تقدم دراسة عن الحوكمة، اقتصاديا وفنيا وهندسيا واداريا وقانونيا وماليا، تم إرساله لمجلس الانماء والاعمار.

ومن بعدها توجهت المصلحة نحو الملوثين، سمتهم بالأسماء، وأرسلت بهم كتباً للإدارات والوزارات المعنية، وتقدمت ضدهم بإخبار لدى النيابة العامة التمييزية، كما رفعت دعاوى جزائية بحق المعتدين على أملاك المصلحة.

وملف المصانع والشركات الملوثة اليوم اصبح لدى مفرزة زحلة القضائية، على أن يتم الكشف قريبا على المصانع المخالفة واتخاذ الاجراءات اللازمة بحقهم، وينتظر علوية هنا ترجمة الوعود بمكافحة تلوث الليطاني، ويعتبر ذلك اختباراً للنوايا ولمعرفة ما ان كان لدى هؤلاء غطاء سياسي.

وكشف علوية لـ"ليبانون ديبايت" أنه في صدد الانتهاء من تحضير اقتراح قانون يتضمن تعديل مهام المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، والحوكمة، يهيّء لخلق ما يسمى بهيئة ادارة الحوض، التي يكون من مهامها ادارة الحوض ومتابعة استثمار الموارد وحمايتها وتضم ممثلين عن المجتمع المدني.

ما الذي ينقذ الليطاني اليوم؟ يجيب علوية "الانقاذ يكون بتطبيق القانون لا بالمليارات" فعلى الجهات المعنية أن تنفذ المشاريع وفق أولوية مدروسة لا عشوائية، ويشدد على ضرورة الالتفات لمواصفات المعدات المستعملة في المشاريع الانقاذية، ووقف التعديات أولاً، وقف الصرف الصناعي فورا، واجبار البلديات باتباع خارطة طريق حلول بديلة لحين وصول محطات التكرير . الأمر الذي يحتاج الى مراقبة شديدة، غير موجودة حالياً، تطالب بها اليوم المصلحة، وإلا نكون أمام خطر هدر 1100 مليار من دون ايجاد حل لتلوث الليطاني.

وفي تفاصيل التدابير الآنية للبلديات التي أوصت بها المصلحة، فهي معاينة كل مصبات الصرف الصحي مع البلديات ومنع صب المجارير مباشرة بالنهر من خلال تحويل مجرى الصرف الى اماكن يتم زرعها بالقصب والنباتات او ما يشابهها، قبل ان تصب في النهر بانتظار الانتهاء من انشاء محطات التكرير، وعدم السماح بوصل أية خطوط شبكات مجارير جديدة في المناطق التي لا يوجد فيها محطات تكرير خصوصا في المناطق القريبة من نهر الليطاني، انشاء جور صحية للوحدات السكنية وفق النصوص القانونية النافذة (القرار 32/16 والمراسيم التطبيقية له) في البلدات التي يتعذر شركها بالصرف الصحي وتأمين تفريغ هذه الجور وايصالها الى محطات التكرير، والعمل على تشغيل المحطات الموجودة على جانبي النهر والتأكد من أن المحطات تعمل بقدرتها القصوى وذلك عبر استكمال جميع الشبكات والوصلات المنزلية.

وعن الفورة الاعلامية لتدابير المصلحة ومواكبتها على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول علوية "قريبون اليوم من الاعلام والمجتمع، لا يمكن أن نكون شركاء بإدارة هذه المشكلة من دون الاقتراب من المجتمع المدني الذي الاعلام هو جزء منه".

مهمةٌ شبه تعجيزية تلقى اليوم على عاتق علوية، الذي أثبت بخمسة اشهر انه جديرٌ بمنصبه، ولكن يبقى السؤال هل ستتعاون الجهات المعنية مع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني وتلاقيها على طريق النهوض بالنهر أم أن المكاسب المستوحاة من الفساد ستقف عائقاً أمام جهود إدارة رسمية استعادت وعيها وإن مؤخراً ؟؟!!