ولّد التأخير في ولادة الحكومة انطباعاً بأنّ أسبابه خارجية لا داخلية من منطلق انّ المسؤولية دائماً على الخارج، ولكن حقيقة الأمر أنّ أسباب التأخير محلية لا خارجية، فيما هناك مجموعة عوامل ستدفع عاجلاً أم آجلاً إلى تأليف الحكومة.
 

التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية على مدى عقود جعلت الرأي العام اللبناني ميّالاً إلى تحميل الخارج كل إخفاقات الداخل، وهذه الصورة لا تعكس حقيقة الوضع السياسي، فيما هناك جزء من طبقة سياسية اعتاد على تدخلات الخارج والتنصّل من أي مسؤولية، فلا يجد نفسه معنياً بحل الأزمات في ظل غياب الأدوار الخارجية، وكل الكلام اليوم عن دور سعودي او إيراني معطِّل للتشكيل لا أساس له من الصحة، فلا الرياض في هذا الوارد، ولم تكن يوماً في هذا الوارد، ولا طهران ايضاً، بل يحاول «حزب الله» إزالة الألغام من أمام التأليف على غرار دعوته إلى ترحيل الاشتباك التطبيعي إلى ما بعد تأليف الحكومة، ومعلوم انّ وراء الاشتباك جهة سياسية هدفها إحياء الانقسام العمودي لإخراج الثنائية الشيعية من المساحة الحيادية التي جعلتها أقرب إلى ثلاثي «المستقبل» و«القوات» و«الإشتراكي».


والكلام هنا هو حول الخيارات الحكومية والملفات الداخلية وليس الاستراتيجية التي ما زالت موضع خلاف كبير وكبير جداً، ومن الواضح انّ هناك انزعاجاً من حيادية الثنائية الشيعية، والمحاولات لتوريطها في اشتباك مع ثلاثي «المستقبل» و«القوات» و«الإشتراكي» قائمة على قدم وساق، وأقرب الطرق إلى ذلك إحياء ملفات خلافية بغية إبعادها عن الثلاثي وتقريبها من الجهة المعرقلة تحقيقاً لأهدافها الحكومية.


وتسمية الأشياء بأسمائها ليس انتقاصاً ولا عيباً، بل جرأة في قول الحقيقة، وهي انّ «حزب الله» لا يضع عراقيل في طريق التأليف، فلم يعترض على تمثيل «القوات» ونوعيته، ولا على تمثيل «الإشتراكي» ونوعيته، ولا على تمثيل «المستقبل» ونوعيته، وقد يكون عدم الاعتراض مَردّه إلى حاجته لتشكيل حكومة تشكل استمراراً لاستراتيجيته القاضية بالتبريد في لبنان من أجل مواصلة وظيفته السورية، وقد تكون أيضاً ربطاً بحاجته لاستمرار «الستاتيكو» الحالي بتوازناته الوطنية حرصاً على الاستقرار الداخلي، وقد تكون أيضاً ربطاً بمعرفته ان لا حكومة من دون الثلاثي «المستقبل» و«القوات» و«الإشتراكي».


وما تقدّم لا يعني انّ «حزب الله» بَدّل في استراتيجيته التي لا التقاء معها لا من قريب ولا من بعيد، بل يعني انّ أولويته في المرحلة الحالية هي الحفاظ على الاستقرار السياسي في لبنان من دون هَزّ التوازن السياسي والستاتيكو القائم، وهذه الأولوية تتقاطع مع أولوية القوى السيادية الأساسية والتمثيلية بالحفاظ على الاستقرار ضمن معادلة التوازن، وفي اللحظة التي يبدِّل فيها بأولويته تتبدّل تلقائياً أولوية الطرف الآخر في طريقة التعامل معه.


والاستقرار القائم في لبنان هو نتيجة عملية لهذا التقاطع بالحفاظ على الستاتيكو في ظل محاولات يقوم بها «حزب الله» بين الفينة والأخرى لتحسين تموضعه ضمن هذا الستاتيكو القائم، ولكنه في اللحظة التي يشعر فيها انّ محاولاته ستؤدي إلى كسر «الستاتيكو» يتراجع إلى مربّع الحفاظ على التوازن الوطني الموجود.


ومع دخول التأليف شهره الرابع، يفترض ان يكون الجميع قد وصل إلى اقتناع مفاده انّ هذا الوضع يمكن ان يستمر طويلاً على هذا النحو، والمتضرر الأكبر منه هو العهد الذي في إمكانه ان يبادر سريعاً إلى تجاوز العقد التي رَست عند قبول «القوات» بـ4 وزراء حداً أقصى للتنازل، وقبول «الإشتراكي» بالحل الذي يمكن ان يقدِّمه الرئيس نبيه بري مخرجاً يحتفظ فيه ضمناً بالمقاعد الدرزية الثلاثة، خصوصاً انه لا يمكن إيقاف عجلة البلد على مقعد من هنا وحقيبة من هناك، فضلاً عن انّ المشهد السياسي ثبت على المسلمات الآتية:

ـ أولاً، لا اعتذار للرئيس المكلف سعد الحريري حتى ولو طال أمد التأليف سنوات.

ـ ثانياً، لا إمكانية لاستمالة الرئيس المكلف ودفعه الى تجاوز وجهة نظر «القوات» و«الإشتراكي» لتمثيلهما الوزاري.

ـ ثالثاً، لا حكومة أمر واقع ولا حكومة أكثرية ولا ثلث معطلاً للفريق المعرقل.

ـ رابعاً، لا عودة «قوّاتياً» ولا «إشتراكياً» عن التراجع الذي كانا قد أقدما عليه، وبالتالي الكرة في ملعب الفريق الآخر.

ـ خامساً، وقوف الرئيس بري في الوسط الأقرب إلى الثلاثي «المستقبل» و«القوات» و«الإشتراكي».

ـ سادساً، حياد «حزب الله» هو أقرب إلى الثلاثي «المستقبل» و«القوات» و«الإشتراكي».

ـ سابعاً، سقوط كل محاولات استحضار الخارج او الملفات الخلافية.

ـ ثامناً، لا توجد اي جهة سياسية متضامنة مع الفريق الذي يواصل عرقلته، وبالتالي تتحرك وحيدة في المشهد الحكومي-السياسي.

ـ تاسعاً، لا يوجد في الأفق ما يمكن الرهان عليه، بل التطورات الخارجية التي لا رهان عليها تخدم الطرف الآخر وليس من يتبع سياسة التحجيم.

ـ عاشراً، ثبات المجتمع الدولي على وجهة نظره بضرورة تأليف حكومة متوازنة وتلتزم سياسة «النأي بالنفس».


ومهما طال أمد التأليف أو قصر لا تبدّل في هذا المشهد السياسي الذي يحاصر مساعي التعطيل والمعرقلين ويطوِّقها، والرهان على تبدلات ليس في محله، وعامل الوقت لا يخدم الجهة الساعية الى تحجيم غيرها، كما انّ السعي لدفع الرئيس المكلف الى تقديم تشكيلته من أجل رفضها لن يغيِّر شيئاً في الوقائع، لأنّ اي تشكيلة أخرى ستكون نسخة طبق الأصل عنها، وإلّا لا مسودة أخرى.


وفي كل هذا المشهد لا أوراق قوة شعبية ولا سياسية للفريق المعرقل، والرأي العام لجملة اعتبارات يُحمّله مسؤولية عدم التأليف، ومن الواضح انه ينتظر حدثاً ما يُفضي إمّا إلى دفع خصومه للتراجع او يَمدّه بما يُمكِّنه من تبرير تراجعه، وفي الانتظار لا حكومة في الأفق اللبناني.


وتجدر الإشارة الى أن المقالة أعلاه وتحديداً ما تضمنته حول «حزب الله» كتبت قبل بيان كتلة «الوفاء للمقاومة» وتحديداً الفقرة الرابعة والأخيرة، وعلى رغم إشارة المقالة إلى الخلاف الإستراتيجي مع الحزب الذي لم يتبدل، إلا أن بيان الكتلة يتناقض جذرياً مع ما كان ذهب إليه السيد حسن نصرالله بدعوته إلى ترحيل الملفات الخلافية إلى ما بعد تشكيل الحكومة وتحديداً ملف العلاقة مع سوريا، ويؤشر إلى نيات تصعيدية، ويعبّر عن خفة سياسية لم يعهدها الوسط السياسي في مواقف الحزب الذي يبدو أنه بدأ الإنجرار إلى تلبية مطالب إقليمية كون دعوته القوى السياسية الأخرى إلى الإستسلام والالتحاق بالمحور الإيراني تعبر عن قصر نظر وسوء قراءة سياسية، والأيام والأسابيع المقبلة كفيلة بتبيان ما إذا كان هذا الموقف سيبقى حبراً على ورق، ما يعني رفضه ترجمة ما هو مطلوب منه، أم سيترجم على أرض الواقع مع كل ما يعني ذلك من الإطاحة بالاستقرار وعودة الانقسام إلى سابق عهده.