باكراً جداً، وربما قبل تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف حكومته الثالثة، حُسم مصير حقيبتين فقط من «الصنف» السيادي هما «المال» و«الداخلية»، أمّا البقية فعرضة لبازار لا يزال مفتوحاً على مصراعيه.
 

في الأيام الاولى لشريط «التأليف»، صارحَ الحريري بعض القريبين منه برغبة وزير الخارجية جبران باسيل إسناد وزارة الداخلية الى فريق تكتل «لبنان القوي». تَشبُّث الرئيس المكلف بالحقيبة السوبر سيادية و»خدماتية» دفع باسيل، ومعه رئيس الجمهورية، الى التراجع عن مطلبيهما.


مع ذلك بقي رئيس «التكتل» يردّد في مجالسه الخاصة والعامة حق فريقه السياسي، وحق رئيس الجمهورية، في الحصول على «الداخلية» أو «المال»، مع الرفض التام لتطويب أي وزارة لطائفة أو فريق سياسي معين.


الحجة الأكبر لدى العونيين في هذا الصدد هي تمكُّن الرئيس السابق ميشال سليمان، بوَهج «اتفاق الدوحة»، وليس استناداً الى امتلاكه كتلة نياببة، من الحصول على حقيبتَي الدفاع والداخلية، فيما يمنع على أكبر تكتل نيابي داعم للعهد بالحصول على أيّ منها. هي واحدة من «الأخطاء الاستراتيجية» التي ارتكبت منذ «اتفاق الطائف»، كما قال الوزير باسيل أخيراً، تماماً كخطأ تجريد رئيس الجمهورية من حصة وزارية على مرّ العهود.


رَفع باسيل، «المفاوض الأول» عن حصة رئيس الجمهورية وتكتل «لبنان القوي»، سقف الشروط حيال العدد والاحجام ونوعية الحقائب لم يَحجب الإقرار من جانبه بخسارة معركة وليس الحرب حيال كسر عرف تكريس حقيبة وزارة الداخلية للسُنّة ووزارة المال للشيعة.


هي بالتأكيد معركة مؤجلة، مع العلم أنّ ثمة فريقاً مسيحياً ينعى منذ الآن احتمال أن يتاح للمسيحيين بعد انتهاء ولاية العهد الحالي فرض شروطهم، بلهجة عالية واتّكاء الى الميثاق نفسه، مثلما يفعل اليوم الفريق المسيحي الموالي للعهد! هكذا انطلق العهد على أساس الثوابت الآتية: وزارة المال بين يدَي الشيعة، وتحديداً الرئيس نبيه بري. «المال» للسنّة، وتحديداً تيار «المستقبل». «الخارجية» و»الدفاع» ضمن ملعب العهد. مع إشارة الى محاولة الحريري اعتماد المداورة بعودة «المال» الى حضن «المستقبل» مجدداً، لكنّ المحاولة فشلت.


وفيما يرى كثيرون أنّ حقيبة «الداخلية» ستكون قابلة للتفاوض بين القوى السياسية على قاعدة «التبادل»، فإنّ ثمة إقراراً بأنّ «المال» خرجت تماماً من بازار التفاوض لتستقر بين يدَي الفريق الشيعي.


وزير المال، الذي يكاد يكون الوزير الوحيد صاحب صلاحية توقيع كافة المراسيم العادية والمتخذة في مجلس الوزراء، صار في حكم «مكتسبات طائفة» لن تتهاون في تثبيت ملكيتها التوقيع الثالث بعد توقيعي رئيسَي الجمهورية والحكومة. لا يكرّس هذا الواقع سوى «الاعتراف الرسمي» الذي صدر عن بري شخصياً في الأيام الاولى لتكليف الحريري بأنّ حقيبة «المال» هي خارج نطاق أيّ تفاوض.


يملك بري رواية كاملة موثّقة عن الاتفاق الذي نسج إبّان «اتفاق الطائف» عام 1989 باعتبار «المال» حصة شيعية، وهو الأمر المنصوص عنه، بتأكيد بري، في محاضر الطائف. كذلك يملك الرواية الكاملة لاسترداد الرئيس الراحل رفيق الحريري هذه الحقيبة من الطرف الشيعي منذ تكليفه للمرة الأولى رئيساً للحكومة عام 1992 برضى السوريين.


حقيبة المال التي منحت عام 1989 لشيعي هو علي خليل، بصفته أول وزير يكرّس «ملكية» الشيعة للحقيبة، عادت وحَطّت بين يدَي علي حسن خليل عام 2014 في حكومة تمام سلام، ثم في حكومة الحريري الثانية عام 2016 بعد انتخاب عون رئيساً.


بقي الخليل وزيراً للمال في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990، ثم عُيّن مكانه أسعد دياب في حكومة الرئيس رشيد الصلح عام 1992. بعدها، فرضت حسابات «الدخول الحريري» الى الساحة اللبنانية، من بوّابة السلطة، نفسها. بقيت «المال» بيد الحريري الأب من 1992 حتى العام 1998 تاريخ تَولّي الرئيس إميل لحود صلاحياته الدستورية. يومها انتقلت الحقيبة للمرة الاولى منذ عهد الطائف الى ماروني هو جورج قرم. فَلتة شوط، إنتهت بعودة الحقيبة الى يد الحريري عام 2000 حيث جَيّرها لفؤاد السنيورة بالأصالة بعدما شغل سابقاً منصب وزير دولة للشؤون المالية.


وبعد ولايتين للسنيورة كوزير للمال، عَهد الرئيس عمر كرامي بحقيبة المال الى الياس سابا (إرثوذكسي) عام 2004، وفي حكومة نجيب ميقاتي إنتقلت الى دميانوس قطار (ماروني) عام 2005، ثم جهاد أزعور (ماروني) في حكومة السنيورة الاولى، أمّا في حكومة السنيورة الثانية عام 2008 فأوكلت الى محمد شطح (سني). في حكومة الحريري الإبن الاولى عام 2009 بقيت في الملعب السني بإسنادها الى ريّا الحسن، حيث لم ينفع الضغط العوني في «سحبها» لمصلحة الكتلة المسيحية الأكبر.


في حكومة نجيب ميقاتي 2011 أوكلت حقيبة المال الى محمد الصفدي، وفي حكومة تمام سلام عام 2014 و2016 أوكلت الى علي حسن خليل... مع إقامة مفتوحة!


وفق المعلومات، علي حسن خليل إبن الخيام «ماركة مسجّلة» باسم حقيبة المال حتى إشعار آخر. لطالما ردّد بري أمام سائليه، خصوصاً حين تفتح سيرة الخلاف الذي كثيراً ما يندلع بين «التيار الوطني الحر» ووزيره النشيط: «من لديه ممسك على «علي» فليأتِ به إليّ».


وبري في لأساس من رافضي وضع «الفيتو» على من يسمّيهم من الوزراء من أي طرف كان. أما الحقيبة بتموضعها الشيعي فخارج أي نقاش لدى حركة «أمل» و»حزب الله» على حدّ سواء. لا يكتمل المشهد إلّا بما يسرّب من الغرف المغلقة عن احتمال إحداث وزارة جديدة تحت مسمّى وزارة «الأمن القومي»، تخضع لها كافة الاجهزة الأمنية وعلى رأسها شيعي.


لن يستقيم مشروع كهذا إلّا بعد الدخول في الترجمة العملية لِما يسمّى الاستراتيجية الدفاعية الناظمة في أحد وجوهها لسلاح «حزب الله»، وإعادة هيكلة استخدامه تحت أمرة الدولة. ستكون وزارة الأمن القومي، في رأي مُطّلعين، البديل «الشرعي» عن سلاح «حزب الله» في مراحل متقدمة من الحلّ النهائي لوجهة هذا السلاح وإدارة استخدامه!