في بداية استشارات التأليف التي بدأها الرئيس المكلّف سعد الحريري مع الكتل النيابيّة، أبلغه رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ما حرفيّته: إنتهت مرحلة الانتخابات، وصار لا بدّ من إعادة لمّ الوضع في أسرع وقت ممكن، وأوّل خطوة في هذا الاتّجاه تشكيل حكومة، ولا أعتقد انّ هذا الأمر صعب، نحن مع كلّ ما يسهّل مهمّتك، ومن هنا نرى انّ الطريق الأسلم إلى هذه الولادة السريعة، هو اعتماد الصيغة التي كانت معتمدة في الحكومة السابقة، أي تتمثّل الكتل الموجودة فيها بأحجامها نفسها».
 

يُقال انّ الرئيس بري لمس تجاوباً من قِبل الرئيس المكلف، وهذا ما دفعه في نهاية اللقاء الى التصريح علناً بأنّ الحكومة يُفترض أن تولد خلال فترة لا تتجاوز الشهر. ولكن سرعان ما تبيّن انّ بري يعزف على هذا الوتر وحيداً، ولم يتجاوب معه ايّ طرف سياسي، وأكلت الشروط، خصوصاً بين «التيّار الوطنيّ الحرّ» و«القوات اللبنانية»، وكذلك ما أحاط عقدة التمثيل الدرزي، الشهر الأوّل من التعطيل، ثمّ الشهر الثاني، وألقت بالحكومة الى قعر التعقيدات.


إنتظر بري ان يتبدّل هذا المسار، وينحرف بعيداً عن تلك الشروط التي أخذت في معظمها طابعاً تعجيزياً غير قابل للقبول به من ايّ طرف، لكنّ الامور تعقّدت اكثر، ولم تتحرّك على الرغم من الأولويّات الداخلية، والصراخ الاقتصادي الذي بدأ يتعالى ويوجب بناء السلطة التنفيذية في أسرع وقت، إلّا انّ الانتظار طال، ولم يسمع بري سوى كلام جميل، لا يقدّم ولا يؤخّر، فيما الامور تهرول مسرعة الى الوراء.


وعلى هامش الاجتماع الرئاسي الذي عقد بعد ظهر الخميس 26 تموز الماضي، في القصر الجمهوري مع الموفد الخاص للرئيس الروسي الكسندر لافرنتتيف، عُقدت خلوة قصيرة بين الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري.


في هذا اللقاء، توجّه بري الى عون والحريري قائلاً ما مفاده:» أعتقد انّه آن الأوان لتشكيل حكومة، لقد اصبحنا على مشارف الشهر الثالث، والامور تراوح في السلبية ولم تتقدم خطوة جديّة في اتّجاه التأليف. وانتم تعلمون مثلي ان وضع البلد ليس خافياً على احد، ولا نستطيع ان نقول كل شيء للناس لكي لا نخيفهم، الوضع الاقتصادي اكثر من خطير، وحسّاس جداً ولا يطمئن، وهناك خشية كبرى على الوضع النقدي، ولا اعتقد اننا نستطيع ان نخفي ذلك على الناس طويلاً، أعتقد انّه صار من الضروري والملحّ ان تُحسم الامور، واقلّ الايمان والواجب ان يشكل وضع البلد هذا حافزاً للذهاب الى تشكيل حكومة في اقرب وقت ممكن».


وهنا انتظر بري ان يسمع رأي رئيس الجمهورية، الّا انّ الرئيس المكلف اخذ الكلام وقال: «الامور ماشية، وان شاء الله نفعل شيئاً في وقت قريب». وحتى الآن لم يأتِ هذا الوقت القريب. ما حدا برئيس المجلس الى توجيه رسالة علنية الى مطبخ التأليف مفادها» انّ اقصر الطرق الى تأليف الحكومة هو تواضع الاطراف كلها، وعدم تمترسهم خلف مطالبهم».


ولكن بدا واضحاً ان طريق التواضع كان مقطوعاً، ولم يسلكه احد، بل فتح البلد على مواجهة كبرى على الخط المسيحي بين «التيّار» و»القوات» كان من نتيجتها نسف «تفاهم معراب»، فأطاح ذلك كل الآمال بولادة الحكومة وصارت في خبر كان، واكثر من ذلك، تمّ نعي امكانية ولادتها على ألسنة الكثير من كل السياسيين، الذين ذهب بعضهم في الساعات الماضية الى القول بأنّ الحكومة اذا ما قُدّر لها ان تولد، فلن يكون ذلك قبل نهاية السنة الحالية.


يشي هذا الجو انّ العقدة بين |»التيار» و»القوات»، من النوع الذي يستحيل حلّه، بالنظر الى تصلّب الطرفين وعدم استعدادهما للتراجع ولو لميلليمترات قليلة، ولم يسلّم احدهما بمنطق الآخر تحت ايّ عنوان، فالمعركة بينهما اقرب الى المصيرية والوجودية، ومفتوحة الى احتمالات كثيرة. واستعدادهما واضح للاستمرار في المواجهة مهما طال الزمن.


ورغم هذه الاستحالة تتوالى الدعوات، لفكّ هذه العقدة، التي تشكّل مفتاح التأليف في نظر الجميع، وهنا لا يتردّد بري بالقول: حلّوا هذه العقدة، وبعدها يسهل حلّ باقي العقد، والمقصود هنا بالعقدة الدرزية التي قال بري صراحة: «عندما تُحلّ العقدة المسيحية، فإنّ حلّ العقدة الدرزية عندي، ويحتاج طبعاً الى موافقة وليد جنبلاط».


على انّ اللافت في هذا الجوّ المقفل، هو اتّهام بري بالتفاؤل، من قبل بعض زوار عين التينة، يبدو انّ هؤلاء يعبّرون عن رغباتهم، خصوصاً وانّ رئيس المجلس لم يغادر بعد مربّع الترقّب لما يمكن ان يحمله الحراك الذي قال الرئيس المكلف انّه سيفعّله في هذه الفترة في محاولة متجددة لتوليد الحكومة. ولأن المراوحة السلبية هي العنوان الذي حكم التأليف منذ تكليف الحريري، لا يقارب بري مربّع التفاؤل ابداً، الا اذا صار امراً مفعولاً وتألفت الحكومة. والى ان يحصل ذلك فما عليه سوى الانتظار والتمني ببلوغ هذا الحراك ايجابيات ملموسة تخرج الجنين الحكومي الى العلن.


«لم اقل انني متفائل ابداً» يقول بري، انا انتظر ما سيستجدّ من حراك الرئيس المكلف. وما زلت آمل أن تتقدّم الامور، أعتقد انّنا امام فرصة للانقاذ،، وهناك فرصة للتواضع من اجل البلد، ولعلها فرصة ثمينة لأنّه إن لم يحدث ايّ تطور إيجابي من هذا الحراك، فأنا اخشى انّ الامور هذه المرة ستطول اكثر ولفترة بعيدة. المشكلة المستعصية في رأي رئيس المجلس تكمن في انّ مرحلة التأليف افرزت منطقاً يحاول تكريس أعراف يعتبرها اقوى من النصّ الدستوري. هذه هي العلّة بذاتها.

ولكن ما العمل؟

يجيب بري «أنا من جهتي استخدمت وسأستخدم كلّ وسائل الحثّ على بناء السلطة التنفيذية، وفي مطلق الاحوال أنا لن أسلّم بهذا الوضع، ولا اقبل ان يكون المجلس النيابي معطلاً أو مشلولاً، بل انّه سيعمل، وانا انتظر ان تنجز اللجان النيابية المشتركة مجموعة من المشاريع، التي اذا ما انتهت من انجازها غداً، سأدعو الى جلسة تشريعية بعد 3 أيّام. وليحضر من يحضر».


يُقال لبري انّ البعض قد يعترض ويقول انّ المجلس يحتاج الى دورة استثنائية تجيز له الانعقاد يجيب: فليقرأوا الدستور، ربما يجدون الجواب في المادة 69 التي تنصّ على انّ المجلس مع استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة يصبح في حال انعقاد دائم.


وعندما يُقال له انّ هناك من يدعو الى تطوير الطائف، فيسارع الى القول: ايّ تطوير هذا، «اذا كنّا مش قادرين نؤلف حكومة أو نجمع مجلس الوزراء، فبدّك يانا نطوّر الطائف.