تدلّ المواقف المتلاحقة في الأيام الأخيرة على مختلف المستويات والمُصرّة على وجوب تأليف الحكومة بلا تأخير إضافي، الى أنّ هذا الاستحقاق الحكومي أوشك على الإنجاز، أو يكاد، لأنّ كل الدلائل تشير الى أن لا مصلحة لأحد في تأخير أو تأخُّر ولادة الحكومة، ولأنّ الواقع السائد لا يليق به استحضار الوقائع والظروف التي رافقت تأليفَ حكومات سابقة تأخّر بعضُها لنحو سنة في بعض الحقبات.
 

أيام الحكومات السابقة كانت الأوضاع الداخلية مختلفة كثيراً عمّا هي عليه الآن، وتسودها اصطفافاتٌ سياسية حادة، وكان متوقَّعاً أن يتأخّر تأليف بعض هذه الحكومات، نتيجة التنافس الحاد على السلطة بين فريقين سياسيّين كبيرَين هما 8 و14 آذار لما لهما من الامتدادات الإقليمية والدولية، فضلاً عن المحلية علماً أنّ الدستور المنبثق من «اتّفاق الطائف» لم يلحظ أيَّ نصّ يُلزم الرئيس المكلف تأليف الحكومة بفترة زمنية محددة لتقديم تشكيلته الوزارية الى رئيس الجمهورية حتى إذا انقضت هذه المهلة ولم يتمكن من تأليف الحكومة يعتذر، إما ليعاد تكليفه المهمة نفسها وبروحية وحيثية جديدة، وإما يتم تكليف شخصية جديدة، وذلك تبعاً للاستشارات النيابية الملزمة بنتائجها التي يجريها رئيس الجمهورية لهذه الغاية.


في هذا السياق يقول أحد السياسيين في معرض تعداده المعوقات التي تمنع ولادة الحكومة حتى الآن، إنّ الجميع متضررون من الوضع القائم وإنّ «ارتباطاتهم الإقليمية»، أو ما يقال حتى عن «إملاءاتٍ خارجية» يخضع لها هذا الفريق أو ذاك هي التي تؤخر إنجازَ هذا الاستحقاق، ليس سوى ذرّ رماد في العيون، لأنّ الأفرقاء السياسيين إذا حزموا امرهم فإنهم يستطيعون تأليف الحكومة فوراً وبلا إبطاء، ولكنهم، أو البعض منهم، عبثاً يعتقد أنّ في إمكانه الاستحواذ على السلطة بمفرده نتيجة قراءته الخاطئة لبعض الحيثيات والمعطيات التي تدفعه الى توقع صيرورة الوضع الحكومي لمصلحة خياراته.


بيد أنّ الواقع يشير الى أن لا مجال لغلبة فريق سياسي على آخر في الحكومة العتيدة، وأنّ معادلة التوافق التي أرساها «اتّفاق الطائف» والتي تحكم البلد مستمرة ولا يمكن إسقاطها لمصلحة معادلة «أكثرية تحكم وأقلية تعارض»... ما يعني أنّ رهان أيِّ فريق على الخارج سواء لتغيير هذه المعادلة أو لفرض معادلات جديدة هو رهان خاسر، وكذلك رهان البعض أو سعيه الى تحقيق صيرورة الاستحقاق الرئاسي عام 2022 لمصلحته.


ويعتقد هؤلاء أنّ الأزمة الحكومية كانت ولا تزال داخلية في الغالبية الساحقة من حلقاتها وهي لا تُحلّ إلّا باقتناع المعنيين، وخصوصاً الرئيس المكلف سعد الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وحتى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، بضرورة خفض سقوف شروطهم ومطالبهم بما يؤدّي الى ولادة حكومة وحدة وطنية متوازنة ومتجانسة تعبر بالبلاد من مرحلة التأزّم الى آفاق الانفراج والتقدّم. ولكنّ استمرار هذه السقوف مرتفعة حتى الآن لا يمكن تفسيره إلّا بشيء واحد، وهو أنّ الاستحقاق الحكومي هو أمام استعصاء طويل الأمد، وأنّ لبنان كان ولا يزال موضوعاً على لائحة الانتظار الى أن ينجلي المشهد الحقيقي للمواقف الإقليمية.


وفي هذا السياق، وجد البعض في المواقف التي عبّر عنها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله واستخدم فيها مصطلحات استمرار الحوار الداخلي حول الحكومة وتسهيل التعاطي مع الوقائع المتصلة بها والتأكيد أنّ الجميع محكومون بالتوافق على الحكومة العتيدة وغيرها، هذه المواقف أُريد منها، على ما يبدو، ضبط حدود الاشتباك حول الحكومة ضمن مساحة أمل افتراضي، ويبدو أنّ المطلوب حالياً هو عدم السماح بإنفلات الأزمة عن قواعد الاشتباك القائم.


ولذلك، يقول هؤلاء، إنّ السيد نصرالله أعطى بالمواقف التي أطلقها الاحد الماضي فسحةً زمنيةً علّها تساعد على تأليف الحكومة قاطعاً الطريق امام خيارات يمكن أن تُطرح من خارج السباق.


ويبدو أنّ السيد نصرالله يترك لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون أمر التعاطي بموضوع تأليف الحكومة بما يحول دون بقائه دائراً في حلقة مفرغة. ولذلك سيحاول عون في مطلع أيلول المقبل، أن يزرع دينامية جديدة في الاستحقاق الحكومي لن تكون انقلابيةً على الحريري وإنما داعمة له بغية التوصّل الى الحكومة المتوازنة المطلوبة. ذلك أنّ عون يُدرك أن لا إمكانية لإجراء أيّ تغيير على جهة التأليف الحكومي إلّا في حال اعلن الرئيس المكلف اعتذاره ليعاد تكليفه مجدداً أو لتكليف شخصية جديدة كون أن ليس هناك أيّ نصّ قانوني ولا دستوري يلزم الرئيس المكلّف بالاعتذار بعد فترة زمنية محددة في حال لم ينجح في التأليف، علماً أنه رئيس حكومة تصريف الأعمال في انتظار ولادة الحكومة الجديدة وفي إمكانه أن يستمر في هذا الموقع الى أجل غير مسمى ما لم يؤلّف حكومته العتيدة.