لا يمكن أن يستقيم بلد في ظلّ مجموعات سياسيّة تنظر بعين واحدة، وتعتبر أنّ ما يحقّ لها لا يحقّ لغيرها، وتجيز لنفسها حقّ تأخير ولادة الحكومات والرئاسات، وحقّ المساس بصلاحيّات دستوريّة من أجل تقريب ولادة حكومات بشروطها وليس بشروط البلد.
 

الدراسة القانونية والدستورية التي قدمها وزير العدل في حكومة تصريف الاعمال حول موضوع «مهلة تأليف الحكومة» كانت في محلها لولا الاعتبارات الآتية:


أولا، لو انّ الدراسة شاملة وتتضمّن كلّ الثغرات التي ظهرت بالممارسة في كلّ المؤسسات الدستورية، على غرار الرزمة الإصلاحية التي اقترحها الرئيس ميشال سليمان في نهاية عهده.


ثانياً، لو لم تأتِ في خضمّ أزمة تأليف الحكومة، حيث كان هناك متّسع من الوقت مثلاً في حكومة العهد الأولى لفتح النقاش في هذا الموضوع بهدوء ورويّة.


ثالثاً، لولا عدم إثارتها خلافات طائفية، خصوصاً انّها تأتي من فريق خاض جولات وصولات في محاولات لتقليص صلاحيات الطائفة السنّيّة، والدليل انّ كلّ الطائفة السنّية بمرجعياتها الدينية والسياسية توحّدت على رغم خصوماتها وتبايناتها ضدّ السعي لتحديد مهلة للرئيس المكلّف.


رابعاً، لو انّها جاءت بمبادرة من الطائفة السنية أو من أحد تياراتها الأساسية مثل تيار «المستقبل»، لأنّ أيّ مبادرة من هذا النوع من خارج الطائفة ستثير ردوداً وتشنّجات طائفية، والأمر نفسه ينطبق على الرئاستين الأولى والثانية، حيث من الأفضل أن يأتي أيّ اقتراح تعديل لصلاحيات طائفة من الطائفة نفسها.


خامساً، لو انّها استندت إلى المعايير الواجب اعتمادها عند تأليف كلّ حكومة تجنّباً لأزمات من هذا النوع، ولو اكتفت بهذا القدر من دون الإيحاء انّ الهدف تحويل لبنان إلى نظام رئاسي يستحيل ولوجه في ظلّ الترسيمات الطائفية الموجودة، فضلاً عن انّ هذا السعي غير مطلوب إطلاقاً.


سادساً، لو أتت من فريق سياسي يقارب الأمور بموضوعية وانطلاقاً من المصلحة الوطنية، وينظر بعينين اثنتين وليس بعين واحدة، فلا مشكلة مثلاً، بالنسبة لهذا الفريق، ان يؤخّر تشكيل الحكومات لتوزير الوزير جبران باسيل الراسب في انتخابات العام ٢٠٠٩، ولا مشكلة في تأخير التأليف حتى ينال باسيل الحجم الوزاري الذي يريده في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية وفي حكومة الرئيس تمّام سلام، ولا مشكلة باستمرار الفراغ الرئاسي لأكثر من سنتين ونصف السنة، والأمثلة على هذا المستوى لا تُعدّ ولا تُحصى، وبالتالي كان الأجدر تقديم هذه الدراسة بمفعول رجعي.


سابعاً، لو انّها شملت استحقاق الانتخابات الرئاسية تجنّباً لتكرار الفراغ الطويل الذي دخلت فيه البلاد تحت عنوان «إمّا فلان أو الفراغ الرئاسي»، وبالتالي كان من الأجدى مقاربة الاستحقاق الرئاسي من مربّع مسيحي باقتراح الأفكار التي تحول دون الفراغ من خلال إلزامية انتخاب رئيس الجمهورية في جلسة واحدة مثلاً، وبمن حضر منعاً لمقاطعة الجلسة.


وطبعاً هذا الجانب وايّ جانب يستدعي الوصول إلى توافقات وطنية، إذ لا يكفي ان يأتي الاقتراح من مربع مسيحي في شأن مسيحي، إنّما يتطلب التوصل إلى توافق وطني بشأنه، لأن الرئاسات، حتى ولو كانت طائفية تمثّل كلّ البلد وجميع اللبنانيين.


ثامناً، لو انّ هذه المادة «سلقت سلقاً» في اتفاق الطائف، وانّ الوقت قد حان لإدخال التعديلات اللازمة عليها، فيما القاصي يعلم كما الداني ان هذه المادة أُشبعت درساً وتمّ إدخالها عن سابق تصوّر وتصميم بهدف عدم تحويل مدّة التكليف إلى سيف مسلّط على رقبة الرئيس المكلف، حيث يعمد رئيس الجمهورية أو ايّ فريق وازن إلى المماطلة ورفض كل التشكيلات المقدّمة من الرئيس المكلف من أجل إزاحته وتكليف غيره.


تاسعاً، لو انّ تحديد مهلة التأليف بمدة زمنية لا تعتبره الطائفة السنية تعدياً على صلاحياتها ودورها، وخطورة ان ينقل هذا النقاش الصراع من مواجهة سياسية إلى مواجهة طائفية تعيد البلاد سنوات إلى الوراء، عندما كان النظام السوري يزرع الخوف والتخويف بين الطوائف منعاً من تلاقيها على ضرورة خروجه من لبنان.


عاشراً، لو انّ اقتراح التعديل جاء في ظروف عادية وحياة سياسية مستقرة ونتيجة حوار سياسي أفضى إلى ضرورة إدخال رزمة من الإصلاحات على الدستور ليس من أجل تعزيز وضع طائفة على أخرى أو رئاسة على أخرى، إنّما بهدف حسن سير عمل المؤسسات وانتظام الحياة الدستورية.


فلكلّ هذه الأسباب وغيرها كان من الخطأ تقديم دراسة من هذا النوع في هذا التوقيت بالذات، خصوصاً انّ الجهة التي تقف خلف هذه الدراسة تدرك حجم التوتر الناشئ بينها وبين الطائفة السنية عموماً وتيار «المستقبل» خصوصاً، وليس أدلّ على ذلك انّ النائب فيصل كرامي المعترض على رفض الرئيس سعد الحريري تمثيل سنّة المعارضة في الحكومة يؤكّد على ضرورة الالتزام باتفاق الطائف وصلاحيات الرئاسة الثالثة، وبالتالي نجحت هذه الجهة بتوحيد كلّ الطائفة السنيّة في مواجهة محاولات تقليص صلاحيات رئيس الحكومة.


هناك أزمة تأليف بالتأكيد وأسبابها معروفة، وتتصل بالحصة المضخمة التي يسعى إليها الوزير باسيل ومحاولته تحجيم «القوّات» وكسر «الاشتراكي» سياسياً، ومعالجة هذه الأزمة لا تكون بتخييرالرئيس المكلّف بين السير في هذا المخطط المثلث وبين دفعه مرغماً إلى الاعتذار من خلال الخطة الواردة في الدراسة المقدمة، بل يكون بكل بساطة بتراجع باسيل، لأنّه خلاف ذلك لن تتشكل الحكومة.


ولا يبدو انّ هذا الطرف متيقّن خطورة الكلام عن تعديلات دستورية، وكيف يمكن ان تجرّ البلاد إلى انقسامات طائفية ومطالبات إسلامية برفض المناصفة لأسباب ديموغرافية، إلّا إذا كان المطلوب إدخال البلد في «عصفورية» تنفيذاً لأجندة خارجية.


وفي مطلق الأحوال لا بدّ من ملاحظتين: الأولى انّ «حزب الله» حاول توجيه أكثر من رسالة لهذه الجهة، ان لا حكومة من دون الحريري، بل اضطر إلى اختلاق سيناريو مفاده انّ دفع الحريري إلى الاعتذار يشكل مطلباً أميركياً وسعودياً لعزل لبنان تمهيداً للإطباق عليه، وكلّ ذلك من أجل ان يحذّر هذه الجهة من مواصلة مساعيها في هذا الاتجاه، فضلاً عن انّ أولوية الحزب ما زالت خارجية، وهو ليس بوارد استعادة أجواء الفتنة المذهبية، وبالتالي يقف ضدّ المحاولات الجارية، فيما الرئيس نبيه برّي يضع كلّ جهده منعاً من انزلاق البلاد إلى ما لا تُحمد عقباه.


الملاحظة الثانية انّ هذه الجهة وفي أشهر معدودة أعادت التشنّج الطائفي إلى البلد، مذكّرة بزمن الحروب الأهلية: توتر مسيحي - مسيحي، توتر مسيحي - درزي، توتر مسيحي - سنّي، وتوتر مسيحي - شيعي، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه التوترات نتيجة سوء إدارة المنافسات السياسية،
أم انّه نابع من مخطط بدأت ترجماته على أرض الواقع؟