تكاد مواجهات الداخل اللبناني تشبه تلك التي خيضت عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من حيث أنها كانت في الوقت عينه صراعاً انخرطت فيه عواصم كبرى.
 

ليست حرب الأحجام التي تخاض على مداخل حكومة لبنان المقبلة، إلاّ واجهة شفافة لتلك الحرب الخفية الكبرى التي تخاض لإعادة بناء النظام السياسي في المنطقة. وتكاد مواجهات الداخل اللبناني تشبه تلك التي خيضت عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من حيث أنها كانت في الوقت عينه صراعاً انخرطت به عواصم كبرى من خلال إنشاء المحكمة الدولية بشأن الاغتيال ومن خلال صدور القرار الأممي الشهير رقم 1559 قبل ذلك.

صدر ذلك القرار في سبتمبر من العام 2004. طالب النص بانسحاب القوات الأجنبية وحل الميليشيات الداخلية. بكلمة أخرى، عنى ذلك انسحاب القوات السورية وحل ميليشيا حزب الله. اتُّهم رفيق الحريري بـ”التآمر” لإصدار ذلك القرار، استُدعي إلى دمشق، تم تأنيبه وتهديده. ثم تم اغتياله في فبراير 2005.

تقاطع بركان الغضب الداخلي إثر اغتيال الزعيم اللبناني مع مزاج دولي عام كان عبّر عنه القرار الأممي قبل أشهر والذي لم يعارضه أي فيتو من أي من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. غير أنّ هجوم “7 أيار” الشهير الذي شنّه حزب الله وحلفاؤه عام 2008، مثّل الرد العسكري الحاسم الذي أطاح بالتحولات التي تنامت منذ ذلك القرار الأممي وتداعيات الاغتيال.

يقف لبنان حالياً داخل مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة. تتعرض طهران لحملة دولية تقودها الولايات المتحدة ستقرر مصير وحجم ودور ونفوذ إيران في الشرق الأوسط. تصدر الضغوط ضد إيران عن واشنطن دون أن تكون دول العالم الكبرى الأخرى قادرة على رد العواصف الأميركية عن الجمهورية الإسلامية.

موسكو التي زارها باسيل قبل أيام لا تعتبر أن مسألة التطبيع مع دمشق أولوية على أجندتها في مقاربة المسألة السورية

وفي ذلك العجز ما يشبه التواطؤ على إزاحة “الاستثناء” الإيراني في المنطقة، تماما كما تضامنت دول العالم الكبرى لإصدار الـقرار 1559 لإزاحة سوريا وحزب الله عن لبنان قبل 14 عاماً.

بيد أن الانخراط في هذه المقارنة يقود إلى استنتاج جديد. تبدلت الظروف الدولية والإقليمية على نحو يمنع طهران ودمشق وحزب الله من مواجهة الرياح الخارجية بـ “7 أيار” جديد أو بانقلاب يطيح بسعد الحريري كما حصل في عام 2011 أو بتشكيل حكومة من خلال شخصية بديلة. وحتى حين تحتدّ بعض التصريحات في بيروت مهددة ملّمحة بالاستغناء عن خدمات زعيم تيار المستقبل، تأتي تصريحات أخرى لتسارع إلى التخفيف من بعض الشطط. وبمواكبة هذا الجدل تتقدم إشارات دولية، غربية وشرقية، لتؤكد تطلعها إلى تشكيل حكومة جامعة متوازنة برئاسة سعد الحريري بالذات.

يعرف الحريري ذلك جيدا، وهو في تبرمه واستيائه كما في إيجابيته وتفاؤله يستند على معطيات داخلية وخارجية متينة تصلّب موقفه في مواجهة الضغوط. يدرك الرئيس المكلف أن “الزمن الروسي” الذي يتقدم في المنطقة، لا سيما في سوريا، يحتاجه في هذه المرحلة لقيادة السفينة الحكومية المقبلة، حتى لو خيّل لوزير الخارجية جبران باسيل العائد من موسكو غير ذلك.

تتقاطع موسكو وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي على خصّ لبنان برعاية تحفظ استقراره وأمنه. يمثل تواجد مليون ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان عامل اهتمام روسي في ورشة إعادة اللاجئين التي تبشر موسكو بها، وعامل اهتمام أوروبي في تجنب أن تشقّ هذه الأعداد المياه صوب القارة العجوز، وعامل اهتمام أميركي لجهة أن حلّ مسألة اللاجئين هي الفيصل الذي على أساسه سيتم تقييم أي تقدم حقيقي وناجع للاهتداء إلى الحل السياسي في سوريا.

تفهّم الوفد الروسي الذي زار بيروت الشهر الماضي برئاسة المبعوث الشخصي للرئيس الروسي، ألكسندر لافرنتييف، موقف الحريري الذي رفض ربط عودة اللاجئين السوريين في لبنان بتطبيع العلاقات السياسية مع نظام دمشق. وعلى رغم حساسية روسيا في الترويج لملف عودة اللاجئين لدى المحافل الدولية، إلا أن موسكو تدرك أيضا أنه من غير المفيد أن يُفرض على لبنان ما لم تستطع موسكو تسويقه لدى باريس وبرلين وواشنطن. سمع بوتين شخصيا ذلك في لقائه الأخير في برلين مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وقد يكون سمع ذلك من نظيره الأميركي دونالد ترامب في هلسنكي، فيما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما فتئ يكرر موقف باريس القديم الجديد أنّ لا تمويل لإعادة الإعمار في سوريا قبل وجود حلّ سياسي في سوريا تعترف به المجموعة الدولية. والظاهر أن مبادرة روسيا لم تحظ إلا بدعم اللبناني جبران باسيل على نحو يعكس خواءها وتصدّع واجهاتها.

لم يعد حزب الله وحلفاؤه قادرين على كبت الدينامية الحقيقية التي يدور حولها الموقف الحقيقي من تشكيل الحكومة. أرسل الحزب أحد وزرائه إلى دمشق وأصدرت كتلته البرلمانية بياناً يدعو بيروت للتطبيع مع دمشق. راج أن اتصالا هاتفيا جرى بين الرئيس ميشال عون والرئيس السوري، فيما بشّر صهره باسيل بالتطبيع الحتمي والقادم. وفي ذلك لم يحدّْ زعيم حركة أمل نبيه بري.

والخلاصة أن تحالف “8 آذار” يتكتل على رغم تناقضاته، لا سيما بين “أمل” و”التيار”، حول مطلب ملاقاة دمشق-الأسد قبل أي مداولات دولية وأي اتفاقات أممية في شأن مستقبل النظام وطبيعته في سوريا.

تقاطع بركان الغضب الداخلي إثر اغتيال الزعيم اللبناني مع مزاج دولي عام كان عبّر عنه القرار الأممي قبل أشهر والذي لم يعارضه أي فيتو من أي من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن

يراد لسعد الحريري أن يشكل حكومة تطيح بمفاعيل زوال الوصاية السورية عن لبنان. ويراد للرجل أن يشرف على سياسة تعيد ربط بيروت بدمشق، بغض النظر عن موقف جامعة الدول العربية أولا، كما موقف الدول الكبرى التي تمد مظلة رعايتها للبلد سواء بالدعم العسكري الذي لم ينقطع للجيش اللبناني، أو بالدعم المالي الموعود الذي أقره مؤتمر “سيدر” في باريس.

المسألة إذن ليست مسألة أحجام وتحاصص وحقائب تعيق ولادة الحكومة العتيدة. المسألة تعود إلى جذورها الأصلية التي انفجرت يوم اغتيال رفيق الحريري والمتمحورة حول هوية لبنان ودوره ووظيفته، بين من يريده سيدا مستقلا منسجما مع محيطه العربي محترماً التزاماته الدولية متّسقا مع شروط وأدوات العصر، وبين من يريده تابعاً لأجندتيّ دمشق وطهران منتمياً إلى محور معاد للبيئة العربية متخاصما مع دول العالم الكبرى.

لا تعتبر موسكو التي زارها باسيل قبل أيام أن مسألة التطبيع مع دمشق أولوية على أجندتها في مقاربة المسألة السورية. تدرج العجالة في هذا الأمر داخل تكتيكات طهران وحاجتها لتحصين نفوذها السوري من خلال جرّ لبنان إلى الحدائق الدمشقية. تستنتج أن فتوى الجنرال قاسم سليماني بأن حزب الله يمتلك 74 نائبا داخل مجلس النواب اللبناني ليس إلا سعيا إيرانيا لتكبير نفوذ طهران في لبنان بصفته امتدادا لنفوذها في سوريا المتصل بنفوذها في العراق. وإذا ما كانت موسكو ممعنة في تنشيط عملية أستانا وربطها بعملية جنيف وإيجاد صيغة سورية تكون المعارضة أو بعضها أساسا داخلها، فإن ذلك إقرارا بأن نظام دمشق الحالي ليس إلا “أمرا واقعا” صنعته ولا يقبله العالم، وأنها بصدد إنتاج واقع آخر يحتاج قبول العالم ورعايته.

وفق ذلك، ووفق رسائل موسكو التي أبلغت إلى الحريري، ووفق ما يحمله الموفدون الدوليون إلى بيروت وما يصدر عن العواصم الكبرى بشأن سوريا كما بشأن لبنان، ووفق ما يتسرّب عن ضغوط متصاعدة مقبلة تجاه إيران، لا سيما في نوفمبر المقبل، يداري الحريري عملية تشكيل حكومته بأناة وصبر وجلد وكثير من التأمل والهدوء.

قيل في بيروت إن الحريري سيجبر على تطبيع علاقته مع دمشق حين يمارس العرب والعالم الضغوط. بيد أن حزب الله يدرك أن لا ضغوط قادمة في هذا الاتجاه، أمر عرفه الحريري منذ حين. غير أن الرجل لا يملك مع ذلك أوهام القوة ولا اليقين من ثبات الموقف الدولي. وفي ذلك ما يجعل من عناده مخاطرة كبرى سبق لوالده أن دفع ثمنها غاليا.