النقل والتنقل هو مفتاح ازدهار الاقتصاد، لكن النمو السكاني وازدياد حركة السير في المدن يعمقان الشلل الاقتصادي. فأين أصبح هذا المفتاح اليوم في ظل زحمة سير خانقة يعيشها المواطنون يومياً؟
 

«لقد باتت زحمة السير بلمح البصر كابوساً يومياً يلاحق المواطنين من ساعات الصباح الأولى حتى آخر النهار، ما انعكس سلباً على نفسياتهم المحبطة أساساً، خصوصاً من هم خارج مدينة بيروت حيث يقضون الساعات من أجل الوصول الى أعمالهم بعدما تحولت منازلهم فندقاً للنوم فقط»، كما يشرح عبد الرحمن الذي يسكن في منطقة عرمون ويقضي معظم أوقاته على الطرقات.

إنها معاناة معظم سكان منطقة عرمون وبشامون والجوار الذين هم أصلاً من بيروت، والذين يطالبون الدولة منذ فترة طويلة بحلول جذرية تريحهم من كابوسهم اليومي الشاق خصوصاً في فصل الشتاء.

يقول عبد الرحمن لـ«المستقبل» «يبدأ عملي عند الساعة الـ8 صباحاً وكذلك زوجتي، فنضطر للخروج من منزلنا الساعة السادسة صباحاً كي نتفادى زحمة السير من عرمون إلى بيروت خصوصاً نفق المطار وصولاً إلى العاصمة. وإذا تأخرنا عشر دقائق فقط عن موعد خروجنا تستغرق الطريق ساعتين للوصول إلى عملنا. وفي أغلب الأحيان أصل متأخراً ليُحسم من راتبي كل شهر تقريباً 100 ألف ليرة بسبب التأخير اليومي خصوصاً في فصل الشتاء».

ولا يختلف المدخل الجنوبي للعاصمة عن مدخلها الشمالي الذي يعاني أيضاً في ظل غياب الحلول التي تنعكس سلباً على المواطنين المقيمين والمغتربين.

فريال مغتربة لبنانية تعيش في دبي وتملك منزلا في فيطرون، تقول لـ«المستقبل» «أول ما يبادر إلى ذهني عندما أقرر أن أقضي إجازة في لبنان هي زحمة السير. فهذا الموضوع يسبّب لي أزمة نفسية حقيقية قد تدفعني ببعض الأحيان إلى إلغاء الإجازة لأني أعلم أنني سأقضيها على الطرقات». وهي تعتبر أن «المشكلة في لبنان هي في غياب الحلول لمعالجة الزحمة التي يقضي خلالها المواطن أكثر من ساعتين للوصول إلى مكان عمله صباحاً وساعتين للوصول إلى بيته مساءً». فهذا الوقت، «كفيل بتعكير مزاجه، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها الاقتصاد اللبناني يومياً».

الجسر: أزمة استملاكات

يرد رئيس مجلس الإنماء والإعمار نبيل الجسر التباطؤ في تنفيذ المشاريع التي من شأنها التخفيف من زحمة السير في لبنان، «إلى أزمة الاستملاكات والتي هي في طريقها إلى الحل». وهو يقول لـ«المستقبل»: «هناك العديد من المشاريع دُرست وصدرت فيها مراسيم، ولكن المشكلة الأساسية التي نعانيها منذ عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري هي أزمة الاستملاكات. ومن دون حل هذه الأزمة، لا نستطيع تنفيذ أي مشروع، لأنه بطبيعة الحال يجب أن تملك الأرض قبل ان تُفكر في أي مشروع وحتى قبل التمويل».

هذه الأزمة برأي الجسر تتجه إلى «الحلحلة خصوصاً بعد إقرار موازنة الـ2017 التي تضمنت قانون برنامج لحل أزمة الاستملاكات، ونأمل أن يتفعل هذا القانون بعد تشكيل الحكومة». يضيف: «نحن اليوم نحاول قدر المستطاع العمل من أجل تنفيذ المشاريع للتخفيف من زحمة السير. فعلى سبيل المثال، قمنا بتأمين التمويل لطريق جونية بعد أن استطاعت الدولة تأمين الاستملاكات. وقد طرحنا المناقصة، وكان من المفترض أن نبدأ باختيار العروض في 4 أيلول المقبل، ولكن المقاولين طالبوا بمهلة قد تراوح بين الأسبوعين والثلاثة أسابيع لتقديم العروض المناسبة. هناك أيضاً مرسوم الأوتوستراد من ضبية إلى نهر ابراهيم عُرض في مجلس الوزراء. نستطيع القول أن العجلة تحركت في هذه المرحلة والمعوقات في طريقها إلى الحلحة، وأنا متفائل».

بالنسبة لطريق المطار، يختم الجسر: «كُلفنا من قبل مجلس الوزراء بدارسة كيفية توسيع الطرقات المؤدية إلى مطار رفيق الحريري الدولي كي يستطيع استيعاب 21 مليون راكب، ونحن اليوم بصدد هذه الدراسة التي من المفترض أن تخفف زحمة السير في المنطقة. كذلك لا نستطيع أن ننسى الاوتوستراد الدائري الذي يبدأ من منطقة خلدة وينتهي في منطقة ضبية وهذا المشروع يحل أزمة السير التي نعانيها، ولكن هذا المشروع منذ عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري يعاني أيضاً من أزمة الاستملاكات، ولكن اعتقد أن هذه الأمور في طريقها إلى الحل».

قباني: جسر الأوزاعي كان حلاً لكنهم رفضوه

مشاريع عديدة طُرحت من قبل لجنة الأشغال العامة خلال السنوات الماضية، لكنها بقيت حبراً على ورق كما يقول النائب السابق محمد قباني لـ«المستقبل» «كوننا لسنا السلطة التنفيذية».

ويقول: قبل أن نتحدث عن الحلول، لا بد من عرض الأسباب التي تؤدي إلى زحمة السير في لبنان أهمها:

- أولاً: عدم تطبيق قانون السير الجديد خصوصاً من قبل القوى الأمنية التي تتراخى ولا تعطي الجهد المطلوب.

- ثانياً: الازدياد المضطرد لعدد السيارات (الذي يزيد عاماً بعد عام).

- ثالثاً: المفهوم الخاطىء لدى اللبنانيين بأن الطرقات هي للسير وركن السيارات معاً. وهذا غير صحيح لأن الطريق للسير فقط. أما السيارات فتُركن في مرآب خاص.

- رابعاً: غياب النقل العام.

الحلول التي يقترحها قباني لمعالجة هذه الأزمة تتلخص بـ:

- أولاً: تطبيق قانون السير الجديد بحزم من قبل القوى الأمنية.

- ثانياً: المباشرة بتطبيق خطة BRT (Bus Rapid Transit) أي خط الباصات السريع التي وضعتها لجنة الأشغال العامة والنقل بالتعاون مع البنك الدولي. فهذا الخط يربط المناطق اللبنانية بعضها ببعض عبر باصات سريعة شبيهة بالقطارات، حيث تكون جزءاً أساسياً من خطة تطوير النقل العام في لبنان.

- ثالثاً: تطبيق الخطة التى وضعتها اللجنة ايضاً للعاصمة والتي تتمثل باستخدام باصات صغيرة مع مواقف خاصة لها تساعد المواطن في التنقلات وتخفف من ازدحام السير في العاصمة.

- رابعاً: إنشاء الأوتوستراد الدائري المترافق مع طريق A2، بين بيروت والمعاملتين. وهذا يخفف من السيارات التي تنتقل بين المحافظات، ويمنع بالتالي دخولها إلى العاصمة.

«أزمة السير كانت هاجساً أساسياً لدى الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لذلك قام بانشاء الطرقات والجسور ليصل لبنان من أقصاه إلى أقصاه، ولكن لم يرحموه»، بحسب قباني. يقول «حاول الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2002 العمل على بناء جسر علوي يربط بيروت بالجنوب ويمر فوق منطقة الأوزاعي، وارسل في حينه مستشاره فادي فواز والنائب الشهيد وليد عيدو إلى الأوزاعي للبدء بتنفيذ المشروع. حينها قام أهالي المنطقة بالاعتداء والضرب على النائب الشهيد وعلى فواز الذي نٌقل وقتها إلى مستشفى الجامعة الأميركية، علماً أن قانون إنشاء الجسر أقر في مجلس النواب عام 1999 في حكومة الرئيس سليم الحص، وبلغت تكلفته 28 مليون دولار بتمويل من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية».

كان هذا الجسر الحيوي بمثابة إنقاذ لكل من يسلك هذه الطريق. إذ يختصر المسافة ويخفّف الزحمة وينقذ من لا يريد التوقّف في منطقة الأوزاعي. وهو، كغيره في مناطق لبنانية أخرى، يرتفع فوق المنازل لكنه لا يتسبّب بأي ضرر لها كما كان يُروج، شأنه في ذلك شأن جسر برج حمود وغيره.

والجدير ذكره أن جسر الأوزاعي كان ليؤمّن حركة المرور بين بيروت والجنوب مروراً بمنطقة الأوزاعي، ويمتد بين منطقة السلطان ابراهيم وبين مدخل النفق المنفذ تحت المدرج الغربي لمطار رفيق الحريري الدولي بطول نحو 2.5 كيلومترين وعرضه نحو 22 متراً. ويتّسع لثلاثة خطوط سير في كل اتجاه ويتراوح ارتفاعه بين 9 أمتار و15 متراً وفقاً لطبيعة الأرض. ولكن للأسف توقف المشروع وما زال.

القوى الأمنية "لا تتراخى"

من جهته، مصدر أمني ينفي تراخي القوى الأمنية في تطبيق قانون السير الجديد والتي قد تكون أحد أسباب هذه الأزمة، ويقول لـ«المستقبل» «إن عناصر القوى الأمنية تؤدي عملها على أكمل وجه، ولكن هذا ليس كافياً لحل الأزمة المعقدة في ظل غياب الحلول الجذرية التي يمكن أن تخفف الزحمة التي يعانيها الشعب اللبناني يومياً خصوصاً في ساعات الذروة». ويضيف: «نحن اليوم نقوم بإدارة الأزمة التي لا تدخل بالأساس ضمن مهامنا كقوى أمنية، وبالتالي نحن لا نملك الحلول، وإذا نظرنا إلى كل المشاريع اليوم نراها تدخل ضمن الحلول المجتزأة والآنية فقط لتخفيف الأعباء على المواطنين، وبغياب القوى الامنية وعناصر السير على تقاطع الطرقات يتوقف السير بشكل كلي».

المشكلة الأساسية بحسب المصدر تتلخص بـ«غياب النقل العام الذي يُرتب على الدولة خسارة ما يقارب 2 ملياري دولار سنوياً، وبالتالي يجب العمل على حلّ هذه المشكلة بالدرجة الأولى».

وعن الحلول المقترحة لأزمة السير على المسلك الجنوبي يختم المصدر حديثه بالقول: «جرت محاولات عديدة من اجل فتح اوتوستراد طريق المطار على الخطين لاستعماله لجهة واحدة وكذلك خط الأوزاعي، لكن كان هناك معوقات تحول دون تطبيق هذا الحل. وإلى اليوم، لا توجد بوادر لحل هذه الأزمة في ظل غياب النقل العام سواء بري أم بحري، وكل ما نقوم به نحن كقوى أمنية اليوم ليست سوى مسكنات لا تخفف سوى 10 في المئة من هذه الأزمة التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وبالتالي طرقات لبنان لم يعد لديها القدرة على تحمل العدد الهائل من السيارات».

عجاقة: لتفعيل الحكومة الالكترونية

تُقدّر تكلفة الخسائر الاقتصادية الناتجة عن زحمة السير في لبنان بنحو 2 ملياري دولار سنوياً، بحسب البروفسور جاسم عجاقة، خصوصاً وأن عدد السيارات في لبنان أصبح يفوق قدرة الطرقات الموجودة على الاستيعاب وهذه المشكلة الأساسية التي حتى الآن لم تجد طريقها إلى الحلّ».

يقول عجاقة في حديثه لـ«المستقبل»: «هناك نحو 300 ألف سيارة إلى 350 الفاً تدخل من الباب الشمالي لبيروت صباحاً، ونحو 200 الف تدخل من الباب الجنوبي و50 الفاً تدخل من باب بعبدا. وهذا الرقم يزداد في فصل الصيف». ويلفت إلى أن كل هذه السيارات تشكل زحمة سير خانقة صباحاً ومساءً، متحدثاً عن خسائر اقتصادية كبيرة جراء هذه الزحمة منها:

- أولاً: تكلفة البنزين التي تزداد على المواطن عند توقف السيارة، والتي تُقدر بنحو 126 مليون دولار.

- ثانياً: ازدياد تكلفة الصيانة على السيارات وبالتالي على المواطن، والتي تُقدر بنحو 75 مليون دولار.

- ثالثاُ: قلة انتاج العامل أو الموظف نتيجة التأخير على وقت العمل جراء الزحمة التي يعانيها يومياً مما يؤدي إلى الخصومات المستمرة على راتبه الشهري. وبالتالي يؤدي هذا إلى قلة الاستهلاك، والتي تُقدر بنحو 390 مليون دولار.

- رابعاً: قلة انتاج الشركات والمؤسسات نتيجة قلة وقت العمل، والتي تُقدر بنحو 500 مليون دولار.

- خامساً: التأثير السلبي على صحة المواطن، سواء النفسية او الجسدية، ومن الممكن أن تؤدي إلى حوداث السير، وهذه الحوادث لها تكلفة على شركات التأمين. وبما أن شركات التأمين تأخذ عادة من المواطن مما ينعكس على مدخوله سلباً، 150 مليون دولار.

- سادساً: خسائر غير مباشرة على الاقتصاد نتيجة قلة انتاج الشركات مما يؤدي إلى نقص في الاستثمارات، وبالتالي نقص في الوظائف ونقص في الناتج المحلي الاجمالي، والتي تُقدر بنحو 750 مليون دولار.

مجموع هذه الخسائر مجتمعةً يُقدر بنحو 1.991 مليار دولار أي ما يُقارب ملياري دولار سنوياُ.

وللحد من هذه الخسائر يقترح عجاقة:

- أولاً: تفعيل دور الحكومة الالكترونية، لأن حوالي 20 في المئة من الذين يقصدون مدينة بيروت يكون هدفهم تخليص مُعاملاتهم الادارية، وبالتالي تفعيل عمل هذه الحكومة يساهم في تخفيف زحمة السير.

- ثانياً: يُمكننا وضع تعرفة دولار واحد مثلاً لكل سيّارة تعبر من جسر نهر الكلب وصولاً الى بيروت من الساعة 30/7 إلى 30/9 صباحاً، كذلك الأمر بالنسبة لمن يعبر طريق المطار باتجاه بيروت. وهذا المبلغ يُمكن استخدامه لايجاد حلول أخرى على المدى البعيد. وبإعتبار أنّ هناك 500 ألف سيارة تعبر في اليوم الواحد، فإنّ المدخول سيكون 500 ألف دولار يومياً. هذا المبلغ سيسمح بفتح خطوط بحرية مثلاً، وبهذه الخطوة نستطيع تقليل التكلفة على الاقتصاد وبالتالي زيادة النمو.

في الختام، فان أزمة الزحمة ممكن حلها، والحلول موجودة. لكن في ظل القوانين التي لا تُطبق والمشاريع التي تُدرس وفي ظل التجاذبات السياسية، يدفع المواطن الثمن الأكبر نفسياً واقتصادياً، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.