إستفزَّني أحدُ السياسيين المخضرمين، وقد قرأ مقالي الأخير بعنوان: «يا... فخامتك» فقال: «كأنني فهمتُ مـمَّا قرأتُ أنك تدعو الى الثورة، ولم أفهم في المطلق لماذا تكتب، ولـمَنْ تكتب، ومن أجل ماذا، ومن أجل مَنْ، ومَنْ يقرأك، ومن يسمعك، ومن بكَ يتأثر، ومَن يهاب سيفك والقلم...»

بعد هذا النوع من التعنيف الأدبي والإنهيار المعنوي قلت: نعم... أنا أدعو الى الثورة.. وأنا أكتب لنفسي، ولَكَ ولهمْ وعنهمْ ومن أجلهم، سواء قرأوا وسمعوا وفهموا.. أو لم يقرأوا ولم يسمعوا ولا يفهمون.

أنا أكتب للأجيال وللزمن المرعوب وللتاريخ، وسوف أستمر... ومثلما يؤدّي تكرارُ نقاطِ المـاء الى الحـفْرِ في الأصمِّ من الصخر، فقد يؤدِّي تكرارُ نقاطِ الحبْرِ الى الحـفْرِ في الأصمِّ من البشر.

أنا أدعو الى الثورة... وليست الثورة حكماً ثورة دموية، وليس الثوار حكماً من حَمَلَةِ الرشاشات.

أدعو الى الثورة.. لأن الوطن الذي كانت تعتـزُّ بـه صهواتُ الخيل، أصبح يهروِلُ خلف أذنابها، ولأنه يعاني هزّاتٍ مَرَضِيَّة وارتعاشات قاتلة، وفي هياكله قديسون كَذَبَة، وعلى جدرانه تتسلق الأوثان.

أدعو الى الثورة، لأننا نسير في مواكب الموتى وخلف الجنازات وتحت النعوش وداخل النعوش، ولا يحق لنا أن نرثي أنفسنا...

ولأنَّ الأصفاد تكبّل أقدامنا، وأجسامُنا ترتعش تحت لسْعِ السياط ونحن في طريقنا الى مناجم الفحم الحجري.

وأدعو الى الثورة: على إقطاعية المال وإقطاعية العائلة وإقطاعية الدين، وعلى واقعِ دولةٍ: السلطةُ فيها للحقائب الدبلوماسية، والفاسدون فيها والسماسرة والتجار والمرابون واللصوص، يسرقون بنك المال وبنك الدم، وبالمال والدم يتاجرون.

وأثور على كلِّ ما هو وحشيّ من أجل كلِّ ما هو إنساني، وعلى الزانية التي أصبحت بتولاً وعلى الشياطين الذين أصبحوا عصابة مقدسة.

نعم... أدعو الى الثورة لأن الشعب معتقلٌ في سراديب القهر والفقر والإذلال، يتنفس السموم ويأكل السموم، ويأكله القلق ويتآكله صدأ الزمن، ولا يبقى له من سبيل للدفاع عن نفسه سوى غريزة الثورة.

أدعو الى الثورة الباردة كي نتحاشى الثورة الحامية...

الثورة الحامية تندلع بعنف وتنتهي بانقلاب..

والثورة الباردة هي أقرب الى التطور منها الى الثورة، وهي الثورة الدائمة التي لا يُلَقَّـمُ السلاحُ فيها برصاص البنادق، بل بأقلام الرصاص.

أدعو الى هذه الثورة حتى لا يتحول جنون الشعب الراكد في الثورة الى هيجان في ثورة الجنون.

وليس من ثورة في التاريخ إلا كانت نتيجة جنون شعبي.

إنه الجنون الذي قاد الشعب البريطاني الى ثورة 1642، وهو الجنون الذي أدّى الى الثورة الفرنسية 1789، والى الثورة الروسية 1919.

وهي الحالة نفسها والأسباب نفسها التي جعلت اللبنانيين مجانين، فليكن جنونهم بالثورة الباردة التي يرعاها القلَمُ حتى لا يتحول الجنون الى ثورة حامية تقودهم: إمَّا الى العنف، وإمَّا الى دير الصليب... وإمَّا الى مسيحٍ دجَّال يوهمهم بأنه يحقق لهم الخلاص، وعلى صليب معقوف.

أرجو أن أكون قد أجبْتُ عن بعض تساؤلات ذلك السياسي المخضرم، ولا أنسى أن أشكر خوفه عليّ من أن تؤدي جرأة القلم عندي الى إحالتي على المحاكمة، وحسبي إذ ذاك أن أقول بلسان الشاعر فكتور هوغو لنابوليون الثالث.

أَبريءٌ يعفو عنـهُ مجرمٌ    كيفَ تُسدي العفوَ كفُّ المجرمِ