الخوف من تفاقم العنف وتصاعد الهجمات التي يقومُ بها الوافدون إلى المجتمعات الأوروبية، واستهداف القيَم السائدة في تلك الدول أصبحَ مادة أساسيّة في النقاشات الفكرية والفلسفية، كما تمّت معالجة هذا الموضوع على المستوى الفنّي، سواء من خلال السينما أو الأعمال المسرحية أم غيرها من الوسائط التعبيرية.
 

ولم يتأخر الروائيون بدورهم في نقل الفضاءات المطبوعة بالتوتّر والخوف إلى مضامين النصوص السردية، وربما أبرز من عبّر عن هذه الحالة هو الروائي الفرنسي «ميشيل ويلبك»، الذي يظهرُ من خلال روايته الاستشرافية «إستسلام» ما يصيرُ إليه مستقبل بلده عندما يتبوّأُ رجل من ديانة مغايرة مقاليد الحكم في فرنسا بحلول سنة 2022.

الحدث الآني

ولا تحيدُ مواطنتهُ لورانس تارديو عن ذات السياق في روايتها القصيرة «وفي النهاية الصمت» الصادرة عن دار المدى، غير أن الأخيرة تركّزُ على الحدث الآني، وهذا ما يصرفها عن توقّع سيناريوهات مُستقبلية، من المعلوم بأنَّ هناك رغبةً لدى الروائيين لمحايثة الواقع، بل أنَّ معظم الأعمال التي كُتبت بإيحاء ما عاشهُ المؤلفُ مباشرة تبدو مُتشابكة مع المواضيع الخبرية، بحيثُ أنَّ ما يُقرأُ بين دفّتي العمل لم يمضِ عليه كثيرُ من الوقت، لذا تتقاطع أحياناً المادة المروية مع ما هو معروض في المرئيات لدى المتلقّي.

أسئلة عن الهويّة

بعد المقدّمة التي تحدّدُ خطوط العمل، يدخلُ صوتُ المؤلفة إلى فضاء النص، وهي تذكرُ ما أرادتهُ من عملية الكتابة عن منزل العائلة الذي يحتفظُ بعبقِ أجدادها المنحدرين من إيطاليا. إذ وجدت في الكتابةِ تعويضاً عن فقدان المنزل عندما قرّر الوالد بيعه. كما جنحَ الخيالُ بالرواية بأنَّ ما قد تكسبهُ بالكتابة يوفر ثمنَ شراء أرض سعادتها من جديد. لكن ما يقعُ في السابع من كانون الثاني 2015 حيثُ يُهاجَمُ صحافيون داخل أحد المباني الباريسية يضعُ الراوية التي ما هي إلّا الذات الكاتبة أمام تحدٍّ جديد وأسئلة عن الهوية واللجوء والهجرة والاختلاف الثقافي.

صدمة

ينتهي مشروع كتابة عن موئِلِ ذكريات الطفولة، فبدلاً من ذلك تنخرطُ في تفاصيل الحدث المزلزل، إذ تستعيدُ ما استتبع هذا الهجوم من تطويق مبنى الصحيفة متسمّرةً خلف شاشة الكومبيوتر لمتابعة الأخبار، وما أسفر عن الحادث من جرحى وقتلى ونقل مصابين إلى المُستشفى. ومن ثمَّ تسردُ ما عاشته ذاك اليوم الذي كان عادياً كأيّ يوم آخر، تعود مع ابنتها الصغرى التي تدرس التنس وتقضي مع -ج- وأختها لحظات قبل أن تدوّي صفارات الإنذار. في البداية، تتوقعُ الأمُ نشوب الحريق إلى أن تبدأ قراءة الأخبار على الإنترنت، ومن تلك اللحظةِ يجتاحُ الشعور بالخوف كلّ مفاصل الحياة ويتبدّلُ نمط المعيشة داخل المدينة التي تتحول بعض مناطقها إلى ثكنة عسكرية، كما أن وقع صدمة يكون أشدَّ على حياة الرواية التي تترقب استقبال مولودها الجديد.

هجمات باريس

إلى جانب ما تعرضه الرواية من تداعيات هجمات باريس، تحومُ أطياف ذكريات الطفولة والسنوات التي قضتها الراوية بجوار العائلة الكبيرة في تلافيف النص، إضافة إلى أنّ الحدث يذكّرها برحيل الأم ومعاناتها مع المرض. وتردُ في هذا الإطار أنتافُ من الظروف التي انتقل فيها جدّاها من طرف الوالدة إلى فرنسا هرباً من الفقر وحكم موسوليني، وبعد مرور 40 عاماً شرعَ الجدّ ببناء المنزل الذي يُسمّى «سيبيل» على اسم أم الآلهة التي تمتاز بالخصب، مع تراكم الخوف وما يشعرُ به المرءُ من القلق والتوجّس من الآخر داخل وسائل المواصلات. فهناك إرادة للحياة المُتمثّلة بالفنّ، إذ ما ان يمرُّ أسبوع على واقعة هجمات باريس حتى تبداُ نشاطات فنية في وسط المدينة وترتادُ البطلة برفقة صديقتها -س- عرض مسرحية تشيخوف «بلاتونوف»، ما يعني أنَّ المكان يرفض التخلّي عن هويته الثقافية المُنفتحة على الحياة، كما لا ينسحبُ مواطنو المدينة نتيجة وجود التهديدات، إذ ينهضُ المجتمعُ بعد الهزيمة. لكن هذا لايعني أنَّ ما وقع يمحو أثره بمجرد وجود رغبة لممارسة الحياة اليومية، خصوصاً أنَّ الحدث ألقى بظلاله على كلّ الفئات الاجتماعية بمن فيهم الأطفال الذين يتساءلون عن هذا الخطر، ويدركون ما فرضه من الحذر والتبدّل في السلوكيات.

خطاب مُعتدل

بعكس ما يسودُ في القنوات السياسية من ردود الفعل العنيفة عقب وقوع هجمات المتطرفين على الدول الأوربية، وما ينساق وراء هذا الخطاب المُتشنّج من المثقّفين والمفكّرين، فإنَّ مقاربةَ لورانس تارديو على الرغم من تصاعد النبرة الذاتية في عملها تأتي معتدلة ولا تُحَمِّلُ الدين مسؤولية وقوع الكوارث الناجمة من العنف، لكن تكشفُ على لسان الراوية - بضمير المتكلّم - بأنَّ تلك الهجمات أبانت لها المظاهر المعبّرة عن الاختلاف الديني والثقافي. هي عاشت كما تقولُ متجاورةً مع المسلمين، وما لفت ملبسهم نظرها قبل تاريخ 7 تشرين الثاني، الذي يتحوّلُ إلى لحظة مفصلية ليس بالنسبة للفرنسيين بل للوافدين والمهاجرين، إذ تكلّفهم الإجراءات المتشدّدة مزيداً من المعاناة، فمن جهة لم يَعُدْ لهم وطن كما أن الوصول إلى وطن بديل بات شبه مستحيل من جهة أخرى.لذا هم يبقون على الحافة والعتبة على حد تعبير صاحبة الرواية.

الطفل إيلان الكردي

أكثر من ذلك يتفاعل النص مع صورة إيلان الكردي الطفل الذي رمته الأمواج على الشاطئ حيثُ يسكنُ المشهد التراجيدي مخيلة الكاتبة. وما يُضاعفُ من تأثير الصورةِ هو حسّ الأمومة لدي الراوية. في ظلّ هذا المُناخ المشبع بالخوف، لا ينقطعُ خيط الذكريات ويتواترُ ضمن العمل ما يُحيلُ إلى مكوّنات بيت الطفولة إذ يعاد تأسيسه من جديد في التشكيلة السردية بفضل ما يسميه إمبرتو إيكو بـ»كتالوغ» أي ممتالية من المُفردات والعبارات، مثلما تراه في رصّ أسماء الأطعمة ومحتويات الحاضنة المكانية.

الأم رمز الأمان

ملمحُ آخر من الرواية هو استحضار الأم بوصفها رمزاً للأمان، إذ تبحثُ البطلةُ في متاجر العطور عن أثر الأمّ التي تتعطر بـ«ميتسوكو»، وبذلك يُفهم بأن الأمان والمنزل والأم ثلاثية مترابطة وما يبرزُ القيمة المعنوية للمنزل هو قول الكاتبة بأن فقدان المنزل يعني «فقدان العنصر الوحيد الذي يهديني متعة الديمومة».


يُذكر أنَّ الراوية التي هي الأنا الأخرى للكاتبة تتوسّل في قراءة أعمال الكتّاب الذين عاشوا تجربة العنف للتأقلم مع حالة بلادها. ولايختفي شبح الخوف بمرور عام على هجمات باريس واستقبال الراوية لمولودها الجديد ويكبرُ ألمها كلما رأت مظاهر العسكرة في الشوارع. ولورانس تاديو تؤكدُ على أن العنف الذي يتلبس بأردية الدين ليس إلّا نتيجة لحب السلطة والمتعة. تتميّزُ هذه الرواية القصيرة (نوفيلا) بلغة كثيفة وشخصيات قليلة والاهتمام بالبنية المكانية.