مع بدء مرحلة نضوب الغاز في بحر الشمال، تواجه أوروبا تحدّيات جديدة تتمثّل بتأمين 120 مليار متر مُكعب من الغاز كتعويض عن فقدان هذا المخزون. وفي حين تشتدّ المنافسة بين الروس والأميركيين حول تأمين هذه الكميّة، تبرز إلى العلن فرصة الإستفادة من هذا السوق. لكن يبقى السؤال عن الطريقة التي سيعتمدها لبنان لهذا التصدير في ظل منافسة إسرائيلية شرسة.
 

يُعتبر الغاز الطبيعي بديلا جدّيا للنفط خصوصًا على صعيد الإستهلاك المنزلي والصناعي. وإذا كانت تجربة الغاز في مجال النقلّ غير ناجحة كليًا، إلا أن التطور التقني سيجعل الغاز مُنافسًا جديًا في العقود القادمة.

هذا الواقع مفروض بحكم أن الإستهلاك المُفرط للنفط في القرن الماضي أدّى إلى نضوب العديد من الحقول، ولا يُمكن الإستناد كليًا على النفط الصخري لجعله بديلا للنفط التقليدي بحكم أن التداعيات البيئية لإستخراج النفط الصخري تبقى كبيرة على الرغم من التطور التكنولوجي الذي تمّ تحقيقه في السنين الماضية.

يستهلك العالم سنويًا ما يوازي الـ 3500 مليار متر مُكعّب من الغاز الطبيعي أي نفس الكمية المُنتجة. وتأتي أوروبا في المرتبة الأولى مع إستهلاك سنوي من الغاز الطبيعي يوازي واحد تريليون متر مكعّب (ألف مليار متر مكعّب).

وتستورد أوروبا غازها من روسيا، النروج، الجزائر، قطر، نيجيريا، أذربدجيان، إيران، برّو، ترينيداد وتوباغو. وتُمثّل روسيا والنروج ما يزيد عن 73% من إجمالي الإستيراد الأوروبي من الغاز الطبيعي مما يعني أن التعلّق بهاتين الدولتين كبير جدًا.

مشاكل تواجه الإستيراد

هناك مشاكل عدّة تواجه وستواجه في المُستقبل الأوروبيين في عملية تأمين مصادر الغاز الطبيعي. فمن جهّة هناك مُشكلة النضوب التي تواجه الطاقة الأحفورية في بحر الشمال والتي من المُتوقّع أن تُنهي عمليات الإستخراج في فترة زمنية لا تتعدّى الـ 15 عامًا. هذا الأمر يعني أن الإستيراد من بحر الشمال سيتوقّف ومعها 120 ألف متر مُكعّب في حدود العام 2035.

من جهة أخرى هناك مُشكلة العلاقة الثنائية بين روسيا ودول أوروبا الشرقية حيث تمرّ أنابيب الغاز. والجميع يتذكر أزمات الأعوام 2005، 2007 و2008 بين روسيا وأوركانيا والتي أدّت إلى وقف التصدير الروسي إلى أوروبا في عز فصل الشتاء حيث يزداد الإستهلاك الأوروبي بهدف التدفئة.

منافسة روسية – أميركية

قامت روسيا في خطوة استباقية بالإتفاق مع ألمانيا بالبدء بمشروع جديد أسمه North-Stream 2 وهو عبارة عن أنبوب يصل روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق. تبلغ قدرة هذا الأنبوب 55 مليار متر مُكعّب بكلفة مُقدّرة بـ 8 مليار يورو وخلق وظائف بقيمة 31000 وظيفة.

وواجه هذا المشروع مُعارضة كبيرة من دول أوروبا الشرقية وعلى رأسها بولندا بحجّة حرمان دول أوروبا الشرقية من الأتوات من مرور الأنبوب في هذه الدول، إلا أن إتفاقًا ألمانيًا – روسيًا سمح بخلق شركة مُشتركة بين الطرفين لإتمام هذا المشروع بنجاح على رغم الإعتراضات.

إلا أن الصدمة الكبرى جاءت من الولايات المُتحدة الأميركية حيث قام مجلس الشيوخ الأميركي بإعتماد قانون في 15 تموز 2017، يفرض عقوبات على كل شركة أميركية أو أوروبية تُشارك في هذا المشروع. وهذا القانون يطال بشكّلٍ مباشر الشركات الأوروبية الخمسة (Engie, Shell, Uniper et Wintershall, OMW) التي تُساهم كل منها بـ 10% من قيمة التمويل.

وتطوّرت الأمور إلى حد إتهام دونالد ترامب لألمانيا بأنها تتجه إلى التعلق بشكل كلّي بالغاز الروسي. هذا الأمر يعكس مدى أهمية السوق الأوروبي بالنسبة إلى الغاز الأميركي والذي أصبحت من خلاله الولايات المُتحدة الأميركية المُنتج الأول في العالم أمام روسيا التي تحتلّ المركز الثاني. وإذا كان إحتمال إستيراد الغاز الأميركي مُمكن تقنيًا، إلا أن المُشكلة الأساسية تبقى بالنسبة للأوروبيين في الكلفة العالية للغاز الأميركي نظرًا إلى البعد الجغرافي بين الولايات المُتحدة الأميركية وأوروبا.

وإذا كانت الأسباب الإقتصادية هي الدافع الرئيسي للولايات المُتحدة الأميركية، إلا أن هناك أيضًا دوافع جيوسياسية تتمثّل بحرمان بولندا وأوكرانيا من مداخيل مما سيجعلها رهينة روسيا!

منافسة لبنانية – إسرائيلية

من الطبيعي القول أن القرب الجغرافي للبنان من السوق الأوروبي يجعله هدفا مشروعا للغاز اللبناني. ويستطيع السوق الاوروبي إستيعاب كل الصادرات المُستقبلية للبنان من الغاز. إلا أن المُشكلة الأساسية تبقى في كيفية تصدير هذا الغاز إلى أوروبا حيث هناك طريقتان أساسيتان: عبر أنبوب في البحر أو البر، أو عبر تسييل الغاز في بواخر ليتمّ تصديره إلى أوروبا في بواخر. الحلّ الثاني هو الأكثر واقعية لكنه يزيد كلفة الغاز اللبناني مقارنة بالغاز الروسي.

لكن روسيا ليست المنافس الفعلي للبنان بل العدو الإسرائيلي الذي يمتلك عدة خطوات أمام لبنان وتتمثل أولًا بأنه بدأ إستخراج الغاز في حين أن لبنان لم يبدأ بعد مرحلة التنقيب، وثانيًا بأنه بدأ مُشاورات مع تركيا لتمرير أنبوب غاز من حقل ليفياثان إلى أقرب نقطة في تركيا بطول 450 كم ويكون تمويله بين إسرائيل، تركيا، والإتحاد الأوروبي. هذا الأمر في حال تمّ يُشكّل ضربة كبيرة لتصدير غاز لبنان إلى تركيا ويطرح السؤال عن إمكانية خرق السوق الأوروبي في ظل هذه الظروف؟

من هذا المُنطلق، يتوجّب على السلطات اللبنانية البدء في إيجاد حلول فعلية لمُشكلة التصدير من خارج إطار تسييل الغاز في البواخر. هذه الحلول قد تكون إمكانية إنشاء أنبوب بَرّي ينطلق من طرابلس في الشمال ويعبر الأراضي السورية وصولًا إلى تركيا التي تُشكّل بحدّ ذاتها سوقًا واعدًا للغاز اللبناني.

في الختام، يمكن القول أن التخطيط لمرحلة إستخراج الغاز من البحر أصبح ذا أهمّية قصوى في ظل نفاذ الوقت والسباق الذي بدأه لبنان مع العدو الإسرائيلي للدخول إلى السوق الأوروبي.