تَضجّ مواقع التواصل الاجتماعي،ّ والتاريخ البشريّ المكتوب، بنصائح عن أهميّة القراءة، ودورها بالارتقاء بالعقول وتفتيح الوعي، وكل الصفات التي تحوّل القارئ إلى ما يشبه نبيّ، وأنه لو قرأ الجميع لكان البشر في يوتوبيا ما.
 

لكن، الغريب، أنه في أهم اللحظات المرتبطة بخصوصيتنا وحقوقنا الإنسانيّة، نتوقف عن القراءة، ونضغط على "أنا أقبل" بعمى.


هذا ما وجدته دراسة، لسياسات فيسبوك للخصوصيّة، أجريت في جامعة بريطانيّة، لحوالي 130 شخصاً من أصل 543 "شاهدوا" الصفحة الأولى من الاتفاق، شاهدوا، لا قرؤوا، وهنا اختلاف هائل بين الفعلين.

المفارقة السابقة تفترض وجود نوعين من القراءة الجماهيريّة، الأولى جديّة، مضبوطة، واعيّة، والأخرى مبتذلة، عفويّة، يتصفح فيها الفرد الكلمات.


لفهم هذه المفارقة، لابد من تعيين المساحة الغامضة التي يتحرك ضمنها فعل القراءة، وثنائية تخلق الفرق بين الجديّ والمبتذل، وهي" طقس القراءة" و"مضمون النص"، والتي يمكن لكل منهما أن تهيمن على الأخرى، إذ يمكن أن تقرأ اتفاقية فيسبوك للخصوصية بجديّة، في ذات الوقت يمكن تصفح "نقد العقل الخالص" لإيمانويل كنت، وتخطي بعض الصفحات.

من وجهة نظر أدائيّة-Performative، يمكن اعتبار القراءة الجديّة بوصفها اعتراف بـأن المكتوب ذو أثر في العالم، ويخلق تغييراً ما، سواء عند القارئ أو في العالم الموضوعيّ، في حين أن القراءة المبتذلة هي تلك "اللاجديّة"، التي لا يرى القارئ أنها تغير شيء، هي مجرد ترديد لأصوات الكلمات، أو الفهم السطحيّ لها، أو عدم قراءة ما بين السطور، أو عكس ما تقوله جوليا كريستيفا بأن على القارئ أن يمتلك القدرة على المقارنة مع نصوص أخرى، ويستدعي الصور التي يحيل لها "النص" ليصل للـ"معنى".

ماذا لو اعتبرنا أن القراءة كالجندر، بصورة أدق، اعتبرنا تقنيات القراءة كـ"الدور"، يتم تعلمها وتكرارها ثم ترسيخها كعرف، وأي تغيير بهذا أو انحراف عن هذا الدور يواجه بالعنف، فكما هناك رجل وامرأة، هناك قارئ جاد و قارئ مبتذل، القارئ الجاد، مُهيمن، مُسيطر، يمتلك المعنى، أما المبتذل، فهو أشبه بالترانسفيتايت-Transvestite، لا يؤسس للدور أو لا يحقق المتخيل المقصود، فالقراء المبتذلين عرضة للسخرية والتعامل "اللا جديّ"، بوصفهم لا يمثلون حقيقة أن تكون "قارئاً".

ما سبق فرضيّة هشة، وتتجاهل الكثير من المتغيرات، لكن ماذا لو كانت تقنيات القراءة وما هو "جدي" و"مبتذل" مجرد سلوكيات نتعلمها، أو من منطلق بيير بورديو، ما يتحكم بالقراءة هو "الهابيتوس" –في ويكيبيديا العربيّة استخدمت كلمة الخلقة-، أو أنساق أنظمة الاستعدادات الدائمة، بعيداً عن التعريف المعقد، هي مبادئ موّلدة في ذات الوقت تنظّم الممارسات، وتعمل بشكل واع أو غير واع دون افتراض هدف محدد، فالهابيتوس هو الذي يفترض القراءة الجديّة لمؤلفات جويس وتولستوي وكافكا، وفي ذات الوقت الاستهزاء من كتب كولن ويلسون.

هذا "الهابيتوس" هو الذي دفع ديستويفسكي أن يرسل من السجن لأخيه "أرجوك أن ترسل لي القرآن، ونقد العقل الخالص لكانط، وأرسل لي بدون أي تردد هيغل وبخاصة كتابه عن تاريخ الفلسفة.. كل مستقبلي يتوقف على هذا الكتاب."، وفي ذات الوقت، هي ذاتها التي تؤكد أن روايات عبير لن تغير مستقبل أحد.

عصر الابتذال
يُقال أن ما بعد الحداثة استبدلت الجدية بالمزاح، والانضباط باللعب، والفن الراقي بالمبتذل، بالتالي لم يعد مهماً ما نقرأ، بل كيف نقرأ، فرولان بارت قرأ في كتابه "أسطوريات" مسحوق الغسيل أومو، ذات الشيء فعله مع المصارعة الحرة، دارساً السياسات والسيمياء وراء كل منهما، لكن ليس هذا ما نقصده بالقراءة المبتذلة، بل تلك التي لا يحمل فيها نقد العقل الخالص أي قيمة للقارئ، وتبدو الجريمة والعقاب مجرد رواية بوليسيّة بحبكة ضعيفة، ومشهد العاصفة في الملك لير ليس إلا مشهداً كوميدياً، وهذا ما يراه الناقد البولندي يان كوت في كتابه "شيكسبير معاصرنا".

 

 

هل نحن عرضة للسخريّة إذاً في حال لم يتغير شيء في حياتنا حين نقرأ؟ ولا يجوز أن نقترب بعض "الروائع" كوننا لن نفهمها؟ يحضر مفهوم الكتب التي لا يجب قراءتها عند أوسكار وايلد، في مقاله "أن تقرأ أو أن لا تقرأ" المكتوب عام 1886، إذ يضع فئة من الكتب التي لا يجب قراءتها، كـ"كل مؤلفات آباء المسيحية عدا أوغستين،.. وكل الكتب الجدليّة التي تحاول أن تثبت أي فكرة". فالقراءة المبتذلة هنا، تبدو أن هناك كتب ولو قرأناها بجديّة، فالنتيجة ستكون مبتذلة.

فئة ما لا يُقرأ، يمكن أن تشمل الكثير من الكتب، والتي تجنبها لا يعني أن الفرد لا يقرأ، لكن تقليد "القراءة الجديّة" لا يشملها، وخصوصاً أنه حسب بييير بيارد في كتابه "كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها" يقول أن هناك كتب يكفي تصفحها، ومعرفة مكانها ضمن المكتبة، ذات الشيء في الفقرات في كل كتاب، يمكن معرفة مكانها، حتى فقط لو قام الفرد بتصفح الكتاب كحالة صاحب المكتبة البطولي، الذي لم يقرأ كل الكتب، لكنه يعرف توزعها و فكرة عن موضوعها.

القراءة كسخريّة
الكثيرون في المنطقة العربية يتحدثون عن أزمة القارئ العربي الذي لا يقرأ، في ذات الوقت المستوى الأدبي متدني، وهناك حرب شعواء ضد عناوين محددة، لكن هناك ميزة أساسية للكتابة الأدبيّة، فالكتب نهاية منتجات محكومة بالسوق، ولابد من استهلاكها، وهذا ما يشير له ريتشارد هوغارت في كتابة the uses of literacy، إذ يبحث في روايات الجيب والمجلات الصفراء، التي يقرأها العاملون في الريف الانكليزيّ، وهنا يبرز فعل القراءة، هو حاضر، لكنه غير جديّ، مبتذل، وهناك "إنتاج" أدبي مناسب له يتم استهلاكه.

هذا الإنتاج المبتذل، يمكن أن تخضع لها الكثير من المؤلفات، عبر تسطيح مضمونها، كبعض دور النشر، دار أسامة السوريّة مثلاً، التي تختصر الكتب والمؤلفات العالميّة، إلى أحجام صغيرة، رخيصة الثمن، تلخص الحكاية ومحتوى الكتاب، إلى جانب منتجات خاصة عن حكايات سطحية وميلو دراميّة، كحالة روايات عبير، أو كتب أفضل المبيعات، والحرب قائمة دوماً ضدها وضد من يقرأها، كالسر، وطعام صلاة حب، هنا، تبرز القراءة بوصفها معادل ميلودرامياً للعالم، أو ممارسة لا جديّة، فإما تقدم أحلام وهمية بالخلاص، أو تدعو للاستكانة، كونها تخلق فانتازماً يعلم القارئ أنه لن يحققه، لكنه يقرأ على كل حلّ لأن ببساطة، لم لا !، البعض يقرأ ليضحك أو يسخر من النص نفسه، لا يصدق ما يقرأه، كمن يسمع نكتة تافهة ويضحك.

من القراءة للتصفح
اتسع مفهوم القراءة المبتذلة ليتجاوز "الكتاب"، لتشمل ما يظهر أمامنا من نصوص على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، بوصف هذه النصوص "ليست أدباً"، ولا "تستحق القراءة"، لكننا نقرؤها في الكثير من الأحيان. سلوك القراءة هنا ومدى "جديّتها" يفرضه وسيط التلقي الذي "يبتذل" المحتوى.

لكن، ألم ينشر ديستويفسكي الأخوة كارامازوف في مجلة على مدار سنة، ألم يكن يكتب من أجل المال ليقامر بعدها ويخسر كل شيء حسب مذكرات زوجته، والقارئ حينها كان يتتبع الرواية في أعداد المجلة، طقس قراءة كتاب بأكمله لم يكن متوافراً، وهذا ما يتحدث عنه ديستويفسكي نفسه وهو يصف القراء في روايته "الفقراء"، إذ لا يتحدث عن أولئك "الجديين"، بل الباعة والموظفين والسكارى والمدرسين الفقراء، كلهم كانوا يقرؤون من الصحف.

من ناحية أخرى، أتاحت تقنيات سحب الشاشة واللمس، والإشارة، ظهور عادة جديدة للقراءة، وهي التصفح،-browsing والتي يحول فيها الوسيط الرقميّ المضمون إلى مبتذل، حسب رأيي عشاق الورق، وكأن لمس الشاشة يفقد نقد العقل الخالص قيمته، ويحوله إلى منشور على فايسبوك، فتقنية التصفح جعلت القراءة المبتذلة طاغية ومهيمنة بين جمهور القرّاء، بل و أكثر انتشاراً، إذ أصبح من السهل "قراءة" أي كتاب والحصول عليه بثوان، كما أن لهذه التقنيّة، أثر فيزيائيّ، إذ تتغير حركة العين حين نقرأ رقمياً، ويزداد تسارع تنقلنا بين السطور، إلى جانب الميزات الأخرى التي تتيحها منصات القراءة الرقميّة، كالتعليق والتحديد والمشاركة وغيرها. 

ألعاب القراءة الممنوعة
نعود للسؤال الأول، لماذا على القراءة أن ترتقي بالعقول؟

الأمر مرتبط باللغة نفسها، كونها الوسيلة الوحيدة لنقل الأفكار، وهي التي تكوّن المنطق ذاته، بالتالي القراءة هي موقف مع النص المكتوب ينتمي لخارج النص، وهذا الموقف يُبرز الاختلاف بين القارئ الجدي والمبتذل، فالجدي يمارس ويتبنى مجموعة قواعد وألاعيب لغويّة، يرى فيها أن هذا "المكتوب" ذو معاني أخرى غير مكتوبة، خفيّة، في حين أن المبتذل، يختار قواعد وألعاب أخرى هدفها تسليته الشخصيّة، وقد لا تنتمي إلى أي سرديّ، كأن يبحث أحد عن الاقتباسات التافهة في الكتب "الجديّة"، كـ"الروح ليست فيلاً" الذي نقرأه في كتاب "الموسوعة" لهيغل، هنا نحن أما لعبة، تفرض شكل القراء، ولكل منا ألعابه، ومصادرة الحق باللعب الفردي، أو تبخيسه، ينفي دوره الأساسي، السيادة الكاملة على الذات أثناء اللعب/القراءة الفرديّة .

لا توجد قراءة بريئة
كل نص سياسيّ حكما، وكل قراءة تحمل داخلها أبعاداً سياسية، وخصوصاً في ظل الصناعة الثقافيّة والماكينات الإيدولوجية، لكننا نحدث هنا بحسن نية، عن قراءة يوميّة، لا إيدولوجيّة، رومانسية نوعا ما، تقدم سحراً آنياً للقارئ، والتي يمكن أن يخضع لها أي كتاب، فأقصى الكتب الثورية ممكن أن تتعرض للقراءة المبتذلة، فـ"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشة، بيعت أقل من مئة نسخة منه، وربما وجد فيه البعض مجرد مذكرات مهرج يتحدث مع حمار الحكمة، وعلى النقيض.

وما يثير الغيظ هو ما نجده في كتاب "قارئ عن القراءة" الذي يبجل فيه ألبيرتو مانغويل القارئ المثاليّ، فـ"هو يوجد في اللحظة التالية للخلق"، و"القارئ المثالي لا يعيد بناء القصة، بل يخلقها"، "الكتابة على الهوامش هي علامة على القارئ المثالي".

لكن ألم نقرأ منذ بداية التاريخ حتى الآن؟ ولم هذه الكراهيّة الخفيّة والعلنيّة للقارئ المبتذل، المُستهلك، الذي يتصفح الكتب، ويقرأ بتخفف، هو عدوّ المثالي، لا يأخذ الكتب على محمل الجديّة، يقرأ ميلان كونديرا كما يقرأ باولو كويلو، حقيقة ، هذا الفئة -وهي الطاغيّة - هم أساس صناعة النشر، هم صناع البيست سيلر، هم السوق، الذي يكتب له الجميع، الذين لم يهتموا لهكذا تكلم زرادشت أول صدوره.