مهما مَثَّلت شعبيًّا، غالِبيّةُ الطبقةِ السياسيّةِ الحاليّةِ لا تمثِّلُ فكرةَ لبنان. لو كانت تُمثّلُها وتَضِنُّ بها لتصرَّفت خِلافَ سلوكِها الحالي. منذُ سنةِ 1988، لئلّا نعودَ إلى سنةِ 1975، وهذه الطبقةُ تَعمَلُ على تغييرِ لبنان ليصبحَ بمستواها ونَجحَت إلى حدٍّ كبير، فنَزحَت الفكرةُ اللبنانيّةُ إلى الحنينِ، ومعها نَزح اللبنانيّون.
 

هناك تلازمٌ سَببيٌّ وتزامنٌ حَدَثيٌّ بين تَرنُّحِ دولةِ الفكرةِ اللبنانيّةِ وحركةِ الهِجرةِ اللبنانيّة. وأصلًا، كان القضاءُ على دولةِ الفكرةِ اللبنانيّةِ هدفَ الحربِ على لبنانَ والتسوياتِ التي أَعقَبتها. حين انتهَت الحربُ بوَجْهيْها العسكريِّ والدستوريِّ بدأت الحربُ الديمغرافيّة. ولا أدلَّ على ذلك سوى مراسيمِ التجنيسِ الصادرةِ في التسعيناتِ، والعمليةِ الجاريةِ ــ رغمًا عنّا ــ لاستبدالِ المهاجِرين اللبنانيّين بالنازحين واللاجئين والمجنَّسين الغرباء.

لقد تَحوّل لبنانُ من دولةٍ قائمةٍ، بنظامِها الديمقراطيِّ وصيغتِها النَّموذجيّةِ، إلى فكرةٍ أكاديميّةٍ يَتحدّثُ عنها اللبنانيّون بصيغةِ الماضي، بل بصيغةِ الغائب. وأصبح شعبُ الفكرةِ اللبنانيّةِ طبقةً معزولةً عن سائرِ «الشعوبِ» اللبنانيّةِ الجديدة.

وبين العقباتِ الجوهريّةِ في «لاوَعِي» عمليّةِ تأليفِ الحكومةِ اليومَ: كيفيّةُ تأليفِ حكومةٍ لدولةٍ أصيلةٍ غائبةٍ، وكيفيّةُ تأليفِ حكومةٍ بالمقابل لدولةٍ مزوَّرةٍ انتَحلَت صفةَ الدولةِ الأصيلة، وكيفيّةُ تأليفِ حكومةٍ أيضًا لغيرِ المواطنِين مع أنَّ تأليفَها يَستندُ إلى نتائجِ الانتخاباتِ النيابيّةِ، وكيفيّةُ تأليفِ حكومةٍ كذلك للطبقةِ السياسيّةِ وأسيادِها الأجانبِ فقط، وكلمةُ «أجانب» هنا تَشمُلُ الشقيقَ والصديقَ والعدوّ.

لذلك، يجري تأليفُ الحكومةِ اللبنانيّةِ بمنأى عن قواعدِ التأليفِ الطبيعيّة. فإذا كان الدستورُ (الخطُّ الأحمرُ) مرجعيّةَ تأليفِ الحكوماتِ في النظامِ الديمقراطيّ، فالتحالفاتُ (الخطُّ الأخضرُ) مرجعيّةٌ أُخرى. لكنَّ تفسيرَ الدستورِ في الحالةِ اللبنانيّةِ الحاضِرة بات إشكاليًّا، والتحالفاتِ السياسيّةَ التي قام عليها العهدُ تهاوَت لأنّها بُنيَت على النفعِ الخاصِّ لا على المنفعةِ العامّةِ.

وهكذا، لم تعُد مُهمّةُ الرئيسِ المكلَّف تأليفَ حكومةٍ فقط، بل استيلادَ تحالفاتٍ جديدةٍ تَسنُدُ تشكيلتَه الحكوميّةَ العتيدة. فعدا التحالفِ، العابرِ التجارب، بين «التيّارِ الوطنيِّ الحرّ» و«حزبِ الله»، انفَرَطت بقيّةُ التحالفاتِ وأَفقدَت الرئيسَ المكلَّفَ المصدرَ المركزيَّ، أي المرجعيّةَ التحالفيّةَ الجامعةَ لتشكيلِ حكومةٍ متجانِسةٍ وقادرةٍ على اتّخاذِ قرارات.

ما يَجري اليومَ هو مسارٌ ينقُضُ مفهومَ «الشعبِ الذي يعيش معًا». مكوِّناتٌ يُخوِّنُ بعضُها البعضَ الآخَر، لا يَثِق بعضُها بالبعضِ الآخَر، ولا يأتَمِنُ بعضُها البعضَ الآخَر: نَخشى إن أُسنِدَت هذه الحقيبةُ الوزاريّةُ لهذا الحزبِ أنْ يُصبحَ لبنانُ سوريًّا، وإن أُسنِدَت تلك الحقيبةُ لذاكَ المذهبِ أنْ يُصبحَ لبنانُ إيرانيًّا، وإن أُسنِدَت هاتِيكَ الحقيبةُ لهاتيكَ الطائفةِ أنْ يُصبحَ لبنانُ سعوديًّا، إلخ... لِمَ الازدواجيّةُ والخيانةُ؟ صار الوقتُ مناسِبًا لنَعترِفَ أمامَ بَعضِنا البعضِ بالـمُمكنِ والمستحيلِ.

كُشِفَ دَجَلُ التعايشِ والوطنيّةِ والوَلاء. ليست الفضيحةُ أنْ نَفترِقَ بسلامٍ، العارُ أنْ نعيشَ معًا ونتقاتلَ كالأعداءِ حتى الموت. أما الخيانةُ فهي الفشلُ في الحياةِ معًا لأنّنا لم نَعرِف تصريفَ أفعالِ المحبّةِ والإخلاصِ والولاءِ والأمل، ولم نؤمن جميعًا بذاتِ الـ«لبنان».

بأيِّ حقٍّ يُمنعُ على «القوّاتِ اللبنانيّةِ» تولّي حقيبةٍ سياديّةٍ، وهي أساسًا حركةُ نضالٍ من أجلِ سيادةِ لبنان؟ فهل إذا تولّت «القوّاتُ» وزارةَ الدِفاعِ ستَنقُل اليرزة إلى معراب؟

وبأيِّ حقٍّ يُمنعُ على «حزبِ اللهِ» تولّي حقيبةٍ خدماتيّةٍ كوزارة الصِحّة، وهو يسيطرُ على كلِّ قراراتِ البلادِ والحربِ والسِلم؟ فهل إذا تولّى «حزبُ الله» هذه الوزارةَ ستُصبح الأدويةُ كَـبْـتاغون؟

وبأيِّ حقٍّ يُمنعُ على رئيسِ الجمهوريّةِ الاحتفاظُ بحِصّةٍ رمزيّةٍ في الحكومةِ وهو رئيسٌ يَرمُز إلى الأربعةِ ملايينَ لبنانيٍّ ما عدا الواردين في مرسومِ التجنيسِ الأخير؟

وبأيِّ حقٍّ يُمنع على الكُتلِ النيابيّةِ دونَ الأربعةِ نوابٍ الاشتراكُ في الحكومة وهي تتساوى دستوريًّا بسائرِ الكُتل؟ وماذا لو بين النوّابِ المستقلّين شخصيّةٌ مميَّزةٌ من نوعِ جبران وحسن كامِل الصبّاح وشارل مالك؟ أَنُضحّي بهم مِن أجلِ تافهٍ مُتقدِّمٍ في التزلّف، «شِبَّيْك لَبَّيْك»؟

إذا كانت الكُتلُ النيابيّةُ تَتمسّكُ بشروطِها حتّى النهايةِ فتلك جريمةٌ، لأنَّ تحقيقَ هذه الشروطِ لن يُنقذَ لبنان. وإذا عادت عنها فالجريمةُ أكبرُ، إذ لماذا لم تَتراجعْ عنها مِن قَبْل ووفَّرَت على البلادِ شغورًا حكوميًّا؟ يُحرِقون البلدَ في لحظةٍ ويُخمِدونه في لحظةٍ أخرى. وبين اللحظتين، يَنقسِمُ البلدُ ويتأثّرُ النقدُ وتَتراجعُ الثقةُ ويتأزّمُ الاقتصادُ وتَزدادُ نسبةُ الهِجرةِ ويَتفشّى الشعورُ بالقرفِ ويَرتفعُ معدّلُ الغثَيان.

مكوّناتٌ تَقضُم الدولةَ وتُسجِّلُ باسمِها مناصبَ ووزاراتٍ ومؤسّساتٍ ومساحاتٍ، وقِوى تَأسِر طوائفَ ومذاهبَ وتُحوِّلُها إلى حسابِ دولٍ أجنبيّة. تَخطّينا مفهومَ المحاصصةِ في الدولةِ إلى مفهومِ توزيعِ الدولةِ ووَهْبِ الشعبِ كأنَّنا وطنٌ أَسلَم الروحَ ويَتِمُّ التبرَعُ بأعضائِه. في أيِّ زمنٍ نعيش؟

سنةَ 1621 أَرسلَ الأميرُ فخرُ الـدّين الثاني الكبير إلى الوزيرِ الأوّل العثمانيِّ، علي باشا، لدى رسوِّه في مرفأِ بيروت، طِفلَه حسين ذا الستّةِ أشهرٍ، فخلَع الباشا على الطِفلِ الصغير عرضًا بسَنجَقيَّةِ عَجْلون في فِلَسطين (محافظةٌ أردنيّةٌ حاليًّا). اليومَ، نَرى أطفالاً، ولا نَرى الوالي ولا الأميرَ الكبير.

حبّذا لو يُدركُ المسؤولون أنَّ لبنانَ ليس عَجْلون، وليسَ هِبةً من أيِّ والٍ، بل هو ثمرةُ نضالِ شعبٍ مقاوِمٍ على مدى العصور. ومَن واجهَ الفتوحاتِ والسلاطينَ والممالكَ، ودَحرَ الجيوشَ والاحتلالاتِ والإرهابَ بالإيمانِ والصبرِ والكفاحِ العسكريِّ... وانتصر، لن يَدَعَ هذه الطبقةَ السياسيّةَ تَقضي على إنجازاتِه وتَقصِفُ أحلامَه وتُنكِرُ تضحياتِ شهدائِه. لقد أصبحَ لِزامًا استردادُ الوطنِ، فلا تؤلّفوا حكومةً لبنانيّةً لغيرِ لبنان، ولا تؤلّفوا حكومةً من دون شعبٍ، وإلّا اضطُرَّ الشعبُ إلى تأليفِ حكومةٍ من دونِكم.