أيّ متابع لطريقة عمل «حزب الله» يخرج بانطباع مفاده أنه لا يستخدم أسلوبَ الضغط على حلفائه، بل يفضِّل ترك الأمور تأخذ مجراها ومداها طالما أن لا تأثيرات وتداعيات سلبية عليه، ويمكن في هذا الإطار الحديث عن نماذج عدة.
 

النموذج الأول يتمثل بالانتخابات الرئاسية، حيث اكتفى «حزب الله» بدعم العماد ميشال عون من دون الضغط لإيصاله لا على حليفه الرئيس نبيه بري، ولا على النائب وليد جنبلاط من أجل تأمين النصف زائداً واحداً، بل اعتمد الانتظار الذي أدّى إلى فتح طريق القصر الجمهوري بعد انتقال عون من مرشح «حزب الله» حصراً إلى مرشح «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي».

النموذج الثاني يتصل بالانتخابات النيابية، حيث اكتفى بالاتفاق مع الرئيس بري على اللوائح المشتركة للحزب والحركة، فيما محاولاته مثلاً لجمع النائب طلال ارسلان والوزير السابق وئام وهاب ضمن لائحة واحدة مع «التيار الوطني الحر» باءت بالفشل، ووساطاته نجحت في أماكن وفشلت في أخرى، وكانت أقرب إلى التمنّي والنصح منها الى الضغط السياسي.

النموذج الثالث يتعلّق بتأليف الحكومة، حيث اكتفى بضمان الحصة الشيعية من دون أن يمارس مثلاً الضغوط على الوزير جبران باسيل ليتراجع عن سقوفه العالية، فإذا نجح بانتزاع ما يمكن انتزاعُه لن ينزعج، وإذا لم ينجح وتراجع لن يعترض.

وقد يكون الحزب مع استعجال التأليف لأسباب إقليمية، خصوصاً أنّ المسار الإقليمي العام ليس في مصلحته، وبالتالي وجوده في حكومة كاملة الأوصاف مسألة ضرورية بالنسبة إليه لأسباب تتعلق بالمظلة الرسمية وأخرى بأن يكون شريكاً في قرارات قد تكون مصيرية ربطاً بالأوضاع الخارجية، ولكنه على رغم ذلك يفضّل ترك الأمور تأخذ مجراها.

النموذج الرابع يتصل بالعلاقات بين حلفائه، فهو يتمنى بالتأكيد أن تكون العلاقة بين «المردة» و«التيار الحر» جيدة، ولكنه لا يضغط ليتحقّق ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقة بين «أمل» و«التيار الحر»، فضلاً عن الشخصيات المستقلّة التي تدور في فلكه ولها من الخصومات داخل فريق ٨ آذار السابق أكثر من خصوماتها مع فريق ١٤ آذار السابق. فالخلافات بين أصحاب الخط الواحد أكثر من أن تُحصى، وعلى رغم ذلك لا يسعى أو بالأحرى لا يضغط لرأب الصدع فيما بينها.

النموذج الخامس يتصل بالوضع المتفلِّت داخل بيئته من قبل مجموعات تستقوي بسلاحه للاعتداء على الناس وأمن الدولة، حيث يفضّل تجنّب المواجهة معها ودعوة الدولة إلى مواجهتها، وأما استنكاف الدولة عن مواجهتها على رغم رفعه للغطاء عنها سببه خشيتها من ردود انتقامية على ضباطها وأفرادها، وشعورها انّ رفع الغطاء هو رفع جزئي وليس بالشكل الكلي المطلوب.

ما تقدّم هو مجرد نماذج للدلالة على أسلوب «حزب الله» في كيفية إدارة ملفاته الداخلية، وإذا تمّ استثناء محطة ٧ أيار التي استخدم فيها السلاح لقلب المعادلة، ومحطة استخدامه القمصان السود لإخراج ١٤ آذار من السلطة، فإنه يفضِّل في المحطات العادية الانكفاء عوضاً عن ممارسة دور الوصاية الذي كان يمارسه النظام السوري.

ففائض قوته لا يستخدمه للضغط على حلفائه وممارسة دور الوصي عليهم، ولكنه يستخدمه لدى شعوره بالحاجة إلى ذلك دفاعاً عن سلاحه ومنظومته ودوره. وهو يتعامل بطريقة استيعابية مع الخلافات داخل بيئته والقوى التي تدور في فلكه، ويتجنّب مثلاً الصدام مع «أمل»، بل يسلِّم بوجهة نظرها حتى لو كان يعتقد نفسه بأنه على حق كما حصل أخيراً مع باخرة الكهرباء، ويحاول تفهُّم خصوصيات كل حليف من حلفائه.

ليس المقصود من كل ما تقدّم التنويه بدور «حزب الله» وهو المأخذ الأساس عليه كان وسيبقى عدم تسليم سلاحه للدولة اللبنانية مع كل ما يستتبع ذلك من عدم تطبيق الدستور وإبقاء الدولة ضعيفة واستمرار لبنان ساحة، إنما المقصود تسليط الضوء على إدارته السياسية المرنة التي تفضِّل تجنُّب الضغوط، لمصلحة سياسة انتظارية بالدرجة الأولى من منطلق أنّ الوقت كفيل بمعالجة الأمور، وسياسة استيعابية بالدرجة الثانية، كما المقصود من كل ما تقدّم محاولة فهم الأسباب التي تدفعه لاعتماد هذه السياسة.

ولعلّ التفسير الأقرب إلى المنطق حول الأسباب التي تدفع «حزب الله» إلى اعتماد هذه الليونة تعود إلى الآتي:

أولاً، أولوية الأولويات بالنسبة إلى «حزب الله» توفير الغطاء لسلاحه من قبل أوسع شريحة ممكنة من القوى السياسية، وهو يدرك ان لكل فريق سياسي خصوصياته وحساباته، وبالتالي يفضِّل أن يبقى خارج تلك الخصوصيات والحسابات تجنبا لصدام او سوء تفاهم يؤدي إلى قطيعة سياسية تحرمه من الغطاء المطلوب لسلاحه.

ثانياً، الدور الإقليمي لـ»حزب الله» يطغى على دوره الداخلي، وبالتالي جلّ ما يريده الابتعاد من المشكلات والحساسيات التي تقحمه في التفاصيل المحلية وتبعده من الأولوية الإقليمية.

ثالثاً، يدرك في نهاية المطاف أنه على رغم دوره الإقليمي وسلاحه فهو قوة داخلية وطائفية وحدوده تقف عند حدود الطوائف الأخرى، وبالتالي لا يستطيع أن يستنسخ في طريقة عمله أسلوب نظام الوصاية السوري.

رابعاً، اتّعظ «حزب الله» من تجربة نظام الوصاية لجهة أنّ حصوله على كل شيء قد يؤدّي إلى فقدانه كل شيء، ولذلك يفضِّل أن يحافظ على سلاحه ودوره من دون أن يتورّط في اللعبة الداخلية، وقد اختلف دورُه بين مرحلة ما قبل الحرب السورية وسعيه لإعادة عقارب الساعة اللبنانية إلى ما قبل العام 2005، وبين ما بعد هذه الحرب وسعيه إلى الحفاظ على التهدئة السياسية التي تتيح له التركيز على دوره الإقليمي من دون الانزلاق إلى مواجهات محلّية تنعكس على هذا الدور، كما اتّعظ لجهة استحالة الإطاحة بأخصامه، لأنّ أيَّ محاولة من هذا النوع مصيرها الفشل وإحياء الوضع الانقسامي المعهود، ولذلك سعى إلى التبريد والابتعاد عن الملفات الخلافية قدر الإمكان مع محاولاته المستمرة إلى توسيع دوره ضمن الستاتيكو القائم والتراجع في اللحظة التي يشعر فيها أنّ محاولاته قد تطيح بهذا الستاتيكو.

وما يجدر قوله إنّ القوى المناوِئة للحزب تدرك بدورها استحالة دفعه الى تسليم سلاحه من دون ظروف إقليمية موضوعية، ولذلك كانت وما زالت مع أولويّة الاستقرار وعدم توريط لبنان بانتظار أن تنضج وتتبلور التفاهمات الإقليمية، وهي لم تتراجع قيد أنملة عن تمسّكها بمشروع الدولة، وإدارتُها للصراع لم تختلف قيد أنملة عن الإدارة المتّبعة من قبلها منذ العام 2005، وقد تكون اليوم في أفضل وضعيّة لها مقارنة مع مرحلة ما بعد 2005.

فلو كانت أولويّة «حزب الله» اليوم قتل الناطور لا أكل العنب لكان رفض أن يكون الرئيس الحريري رئيساً مكلفاً وقرّر تحويل لبنان إلى ساحة مواجهة، الأمر غير القائم، بل يحاول في هذه المرحلة تجنّب أيّ صدام سياسي والحفاظ على التهدئة وتوجيه الرسائل الإيجابية في أكثر من اتّجاه.