كاتب هذا المقال توفيق شومان من جماعة حزب الله يعمل في تلفزيون إيران في استديو بيروت
 

السادة الإقطاعيون المرحومون 
في زمانكم ما كان ماؤنا ملوثا ، وفي زمانهم صار إنساننا ملوثا . 
في زمانكم  أضاءت   الكهرباء  منازلنا وأحلامنا ، وفي زمانهم  ضاعت أحلامنا في غياهب العتمة والظلمة .
في زمانكم كان الصراخ والسباب لوثة عقل ، وفي زمانهم غدت الشتيمة بطولة .
هآناذا اعتذر بعدما عقدت رهاني على أوهام .
وهآناذا اعتذر لأني ما أدركت أن زمانكم كان محاولة  لبناء وطن ، وفي زمانهم ، ما عاد للمحاولة والمحاولين  مكانا ولا أرضا ، بل فعلوا الآفاعيل لإسقاط وطن كان وليدا.
في زمانكم كان ثمة من يقول لا ، وفي زمانهم صارت ال "لا"  مشنقة  أقرب من حبل الوريد .
في زمانكم كان ثمة معارضون ومتظاهرون لم يرمهم أحد بالخروج من الملة والدين ، وفي زمانهم  بات التظاهر كفرا بواحا   يوجب قتل المتظاهرين المرتدين  والمارقين والمهرطقين .
إني أعتذر 
فقد  خدعوني حين مددت لساني مع  الصائحين باتهامكم بالرجعية ، فإذ هم ، يرجعوننا إلى ما قبل الكهرباء وإلى ما قبل الماء النظيف  الذي كان يأتي مطواعا إلى منازلنا ، فلا تسممنا مرة ، ولا تجرثمت أمعاؤنا ، ولا أصابنا الحكاك من رؤوسنا حتى أخامصنا .
أيها الإقطاعيون المرحومون 
في زمانكم كنا نذهب أطفالا ، ما فوق الخامسة بقليل ، إلى المدارس ، فنقطع مسافات وساعات ، ولم  يكن أهلونا يهزهم اضطراب علينا ، او يعصف بهم هاجس اختطاف او حادثة مقيتة ، كما هي حالنا  في زمان ما بعد زمانكم ، إذ  بتنا نخشى على أبنائنا في العشرين ، أن تستقر بهم  رصاصة طائشة ، او تجتاحهم  دراجة نارية طائشة في بلد بات فيه الطيش رجولة ، حتى صدقت به مقولة تصفه بالبلد الطائش.
اعذروني أيها المرحومون 
في زمانكم نافس لبنان بمرطباته أجود مرطبات العالم ، ف" كازوزة " جلول شمخت علوا مثل قلعة بعلبك .
في زمانكم كان الحذاء اللبناني معيارا  لجودة وجمال وصناعة ، وكاد يفحم نظيره  في روما  ونابولي وسائر مدن  الرومان ، وفي زمانهم سقطت علينا " ثقافة الأحذية "، وما أدراكم ما " ثقافة الأحذية " أيها المرحومون وساكنو المقابر؟.
في زمانكم غارت باريس  من الملابس اللبنانية ، وفي لحظة ما ، بدونا أحفادا فعليين لأجدادنا في صيدا الذين اكتشفوا الأرجوان  ومشتقاته فزينوا الجلود والثياب ، وزينا وتزينا بملابسنا  الحديثة ، وصار لنا إسم يقارع في أسواق العالم ، فالبزة المصنوعة في بيروت بزت بزات المعمورة .
في زمانكم ، راحت دفايات "بومباني " وثلاجات " كونكورد " ، تنافس  صناعات الطليان والأميركان ، أوليست تلك ، مداميك الإقتصادات الوطنية المواجهة للإمبرياليات الكبرى والصغرى وما بينهما ؟.
في زمانكم ، ما كنا نعرف من السكاكر سوى " غندور"  و"لافروتا "  و جبر"  وبايونير" ، وكلها من أصحاب الجودة وصاحباتها  ، حيث كنا نهزأ ونسخر من التركي والصيني والكوري ، كانوا وراءنا ، يا الله ، كم غدونا وراءهم في زمانهم الذي تلا زمانكم أيها الرجعيون الإقطاعيون .
  السادة الإقطاعيون المرحومون . 
 في زمانكم ، كانت بيروت مطبعة العرب وإحدى  الأمهات  القليلة لمطابع العالم ، لا يغدو الشاعر شاعرا إذا لم تطبع له بيروت مجموعة شعرية ، ومن بيروت ينال المفكرون العرب شرعية وجودهم الفكري والمهني  ، ومن تحجب بيروت عنه  مطابعها ، فلا شاعرا  يكون ولا مفكرا يستقيم ، وأما في زمانهم فقد تحولت بيروت إلى مضحكة ، يا رب العالمين : هل يدرك أصحاب هذا الزمان هول الفارق بين المطبعة والمضحكة؟.
الإقطاعيون المرحومون .
في زمانكم كان مرفأ بيروت واحة البحر ، سفن العالم كله راودته عن نفسها ، يا له من مرفأ كان ، وكيف أحيا تاريخ مرافئنا القديمة  في طرابلس  وجبيل وصيدا وصور ، يا له  من مرفأ كان ، وكيف أعدنا من خلاله غزو العالم بحرا وتجارة ، تماما كما فعل أجدادنا الفينيقيون ذات تاريخ .
إني أعتذر 
لأني ظننت الثورة تقدما ، فإذا هي حقدا على جمال نحرناه كما قال مرة نزار قباني ، كانت بيروت في زمانكم ، واحدة من مدن خمسة ، هي نيويورك وبون وباريس ولندن ، مقياسا لأي نجاح فني ، آت من هوليود ، أو من بوليود ،كان لدينا فيروز في زمانكم ، فبدت حفيدة عضوية لأوروبا إبنة ملك صور ، مع فارق أن الثانية ، غزت باسمها وجمالها ، العالم القديم ،على أجنحة ثور مخطوف ، فيما الأولى ،غزت العالم  الحديث على أجنحة فنها وجمال أغانيها .
في زمانكم ، كان مطار بيروت يحتل المرتبة السابعة من بين مطارات العالم ،  وفي زمانهم ، ما عاد احد يدري أين يقع هذا المطار ، هل هو في الشرق ام في الغرب ، وهل هو مطار للأنس ام للجان ؟.
أيها المرحومون 
في زمانكم كان نهر الليطاني مشروع إنارة ، ومشروع غذاء ، وفي زمانهم تقمص نهر الليطاني  معناه ، لعينا و ملعونا ، كما  يفيدنا  السريان وأهل السريانية .
إني اعتذر من بين أكوام النفايات  ، حيث بات هواء لبنان العليل نفيا منفيا ، وبعدما غنيتم في زمانكم للمهاجرين أن يعودوا ، اصبح المهاجرون يرددون : وطن  المنفى ولا  وطن النفايات .
في زمانكم عرفنا شعراء  وأدباء  كبارا ، والذاكرة أضيق من عدهم وحصرهم ، وفي زمانهم بتنا نسأل : ماذا بعد هذا الشاعر المرحوم ؟ وماذا بعد ذاك الروائي الملقى على فراش الإحتضار ؟ وماذا بعدما انهارت صحافتنا واستعاض عنها ورثة الزمان بوسائل  التباغض الإجتماعي ؟.
في زمانكم ، ما كانت المقاهي طائفية ، ولا الأسواق مذهبية ، وما كان ل "زبالة القوم " هوية منطقة او طائفة ، أورأيتم أيها الإقطاعيون المرحومون أين وصلنا بعد زمانكم ؟ أما أمعنتم  النظر في البلاء الذي نحن به وفيه ، حيث أضحى للنفايات طوائف؟.
إني أعتذر 
أنتم أيها الإقطاعيون لم تكونوا فجعانين ، ففائض خزيتنا   في العام 1974 ، أي قبل حربنا العبثية  بسنة  واحدة ، كان ثلاث عشرة  مليار ليرة بلغة  ذاك الزمان  ورقمه ، وأما زمانهم فهو زمان الفجعانين والشحاذين  ، ولكم  أن تتخيلوا  واقع  خزينتنا  وكيف تكون الحال والأحوال حين يصبح   الفجعانون ـ الشحاذون   كبار الناس وأهل القمة.
في زمانكم كنا نحلم ، وفي زمانهم صار الحلم خيانة .
في زمانكم ما أكلنا لحما فاسدا ، وفي زمانهم فسدت لحومنا .
في زمانكم ما سمعنا عن أجبان غير مطابقة للمواصفات ، ومع ذلك تشجعنا عليكم شجاعة موصوفة ، وفي زمانهم ما عرفنا مسؤولا مطابقا للمواصفات ، ومع ذلك ، ضربنا الجبن وصرنا ننشد  جماعات ووحدانا :
أنا في الهيجاء ما جربت نفسي/ ولكن في الهريبة كالغزال .
رحمكم الله أيها الإقطاعيون.
******
بقلم الكاتب توفيق شومان .