ممّا لا شكّ فيه أنّ بيان كتلة «الوفاء للمقاومة» يوم الخميس المحذّر من الانزلاق إلى التوتر، كما قبول رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري «التحدّي» بقوله إنّه «إذا كان تحريك الشارع هو الحلّ فليكن»، كما تلويح «القوات» في أنّ «لكلّ طرف شارعَه»... هو مِن باب تأكيد المؤكّد.
 

الكلّ يدرك جيداً أنّ لعبة الشارع سيفٌ ذو حدّين لا يرحم أحداً، والانجرار إليها ليس من مصلحة أيّ فريق، فكيف إذا كان الطرف المهدِّد هو المولود من «رحم» سيّد العهد الرئيس ميشال عون؟

هكذا، مرّ تهديد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بهدوء. وجرى التعاملُ مع قوله إنّه إذا «كان الأمرُ يتطلّب عملية سياسية ديبلوماسية شعبية لفكّ أسر لبنان من الاعتقال السياسي الذي نحن فيه، لن نتأخر»، بوصفه رسالة تصعيد سياسيّة، لا يُراد ترجمتها في خطوات تحشيديّة على الأرض. لا بل تمّ «امتصاصه» بـ»اسفنجة» اللقاء المنتظر بين الحريري وباسيل.

التقى الرجلان بعد توتّر علنيّ حوّل العلاقة الثنائية من حالتها الاستثنائية في «وحدة مسار ومصير» حكمت حكومة العهد الأولى، إلى خلاف واضح في الرؤية وفي المقاربة. تراكمت المؤشّرات الحسّية التي تدلّ على أنّ زعيم تيار «المستقبل» ليس مستعدّاً لتكرار نموذج الوزارة الأولى، قلباً وقالباً.

التناغم الذي طبع العلاقة الثنائية وقد نسجته أنامل نادر الحريري، لم يعد ساريَ المفعول. فقدَ الكثير من مقوّماته ومساحة شاسعة من أرضيّته. صار لا بدّ من قواعد جديدة في تعامل الحريري مع شركائه.

ولهذا بدا التقاربُ متاحاً مع رئيس حزب «القوات» سمير جعجع من جهة ورئيس «الحزب التقدميّ الاشتراكيّ» من جهة أخرى، وإن كان لكلّ فريق حساباته واعتباراته التي تُملي عليه حجمَ المسافة التي يريدها لهذا التقارب.

هكذا أُثيرت تساؤلاتٌ حول إمكانية انبعاث جبهة قديمة- جديدة تضمّ «المستقبل»- «التقدّمي»- «القوات»، في محاولة لنفضّ الغبار عن اصطفاف 14 آذار، ولو تحت عنوان جديد: مواجهة عهد ميشال عون في عامه الثاني.

من الواضح أنّ التنسيق بين القوى الثلاث، على أحسن ما يرام، خصوصاً في ما يتّصل بالوضع الحكومي. الثلاثيّ يواجه بنظره، ممانعةً رِئاسية ورفضاً لمطالبه الوزارية من جانب العهد ولو أنّ الأخير يرفض هذه التهمة ويحوّل العُقد إلى خلافاتٍ بين أبناء الصف الواحد، سواءٌ على المستوى المسيحيّ، أو الدرزيّ أو السنيّ.

لكنّ «المصيبة» جمعت الثلاث على طاولة واحدة، ما ساعد على «تنظيف» تراكمات الماضي، القريب منه والبعيد. لم يعد موقف «القوات» من «أزمة استقالة» الرابع من تشرين الثاني الماضي، «شوكة» عالقة في حلق الحريري، فيما صارت تراكماتُ الانتخابات وما قبلها مع «الاشتراكيّين» تفصيلاً هامشياً أمام تحدّيات اللحظة والغد. ولكن لا أكثر من ذلك.

لا وليد جنبلاط على استعداد للانخراط في جبهة مع أيِّ فريق لمواجهة الآخرين، ولا الحريري هو قادر على مغادرة مربّع المسؤولية كرئيس حكومة للالتحاق بقطار جبهويّ.

يؤكد المطلعون على موقف زعيم المختارة أنّ التواصل بين جنبلاط وبقية المكوّنات في أحسن حالاته. سواءٌ مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي تربطه به علاقة متينة، لا تهزّها رياح المتغيّرات، أو مع «القوات» وقد خرجا لتوِّهما من استحقاق انتخابي خاضاه يداً بيد ولا يزالان في تعاون إيجابي، أو مع بيت الوسط الذي يربطه به تحالف عتيق يعود إلى أيام الرئيس رفيق الحريري، وقد شهدت العلاقة الثنائية تحسّناً نوعيّاً أعاد إليها عافيتها. حتى مع «حزب الله» التواصل جيّد.

ولهذا لا يخطّط جنبلاط للانقلاب على كل هذه المكوّنات ليخنقَ نفسَه في «علبة» اصطفاف ضيّق. الظروف مختلفة ولا يجوز استنساخ «محفّزات» العام 2005. هاجسه اليوم يتركز على مصير الدروز في المنطقة. وهو ليس في وارد إلصاق حزبه في أيِّ جبهة. هو مجرد تقاطع وتفاهم موضعيّ مرتبط بالوضع الحكوميّ، قابل للتوسّع ولكن ليس على حساب العلاقة مع الآخرين.

أما الحريري فاعتبارتُه مختلفة. طالما هو رئيس حكومة فالموقع يفرض عليه إحداثيات متوازنة بين كلّ المكوّنات. المسافة لا بدّ أن تكون واحدة ومتوازية. لكنه يخشى من دخول الحكومة مُستضعَفاً أو مُستهدَفاً، لذا يدافع عن مطالب «القوات» و»الاشتراكيين» على «راس السطح».

يقول عارفوه، لا حاجة لقراءة الأجندة السعودية لكي يدرك الحريري مصلحته. دفاعُه عن الحصّتيْن «القواتية» و»الجنبلاطية» يناسبه وليس مفروضاً عليه بعدما غيّرت نتائج الانتخابات النيابية موازين القوى. لم يعد في استطاعته تكرار نموذج الحكومة الأولى، ولا الأخيرة قابلة للاستنساخ.

لا بل أكثر من ذلك لا يمكن للحريري أن يكون رئيساً لحكومة في عهد يناهضه. لم تحدث في تاريخ لبنان ولن تحدث. العلاقة السويّة مع رئيس الجمهورية ممرّ إلزامي، وجلّ ما يطمح إليه هو تكريس نوع من التوازن في الحكومة يحميه ويحصّنه، ولكي لا يضطر لمواجهة تهمة ترؤس «حكومة حزب الله».