يتركز الضغط على الرئيس المكلف سعد الحريري وكأنّ هناك من يريد دفعه إلى الاعتذار عن التأليف من أجل وضعه أمام معادلة: «إمّا التأليف بشروطنا أو الاعتذار عن التكليف من أجل تكليف جديد».
 

ساد الاعتقاد في الأسابيع الأولى للتكليف انّ سياسة شد الحبال لن تدوم، وان المصلحة العليا للتأليف ستتغلّب على كل الاعتبارات، وان العهد لن يقف على وزير من هنا او من هناك، لأنّ أولويته الانطلاق بورشة وطنية ترضي تطلّعات الناس مستفيداً من التقاطع الخارجي على إبقاء لبنان محيّداً عن محاور الصراعات. والاعتقاد الذي كان سائداً أيضاً وأيضاً انّ اللبننة التي تحققت رئاسياً ستتحق حكومياً بسبب انشغالات الخارج التي تدفعه إلى الانكفاء للاهتمام بشؤونه، فيما الحكومة برمّتها ستكون حكومة العهد، ولا يوجد اي فريق من أركان التسوية إلّا ويدعم العهد في العناوين الوطنية الكبرى، والإنجازات التي ستتحقق، على غرار قانون الانتخابات، ستسجّل في سجل العهد الوطني.


ولكن كل ذلك لم يتحقق، ويصعب تفسير الأسباب والخلفيات، خصوصاً انّ عقد التأليف محليّة بامتياز وفَكفكتها سهلة وغير معقدة، وبالتالي كان بالإمكان تجاوزها نحو تأليف الحكومة التي يعوّل عليها كثيراً لكنّ الأمور تعقدّت ووصلت إلى الجدار المسدود.


والسؤال: كيف يمكن الخروج من دوامة التعقيد؟ لا إجابات في الحقيقة، وهذا يقود إلى تشخيص المشهد كالآتي:

أولاً، يحظى تيار «المستقبل» بضوء أخضر وطنيّاً في الحصول على كامل الحصة السنيّة باستثناء المبادلة مع رئيس الجمهورية بوزير سنّي مقابل وزير مسيحي، كما يحظى بدعم سعودي ودولي، ويشكل حاجة اقتصادية لترجمة مقررات «سيدر». وواضح أنّ «حزب الله» لا يريد الذهاب بعيداً في ملف سنّة المعارضة في مواجهة الحريري تجنّباً لإحراجه، فيما المجموعة السنّية لا تخوض معركة مشاركتها في الحكومة على قاعدة حياة أو موت، بل تكتفي بتسجيل المواقف. فماذا حصل ليُعاد تصوير هذا الأمر وكأنه عقدة من عقد التأليف، خصوصاً انّ كل الأجواء في المرحلة الأولى كانت تظهر عدم تَمسّك العهد بهذا المطلب؟

ثانياً، لا يمكن ان تقبل «القوات اللبنانية» بأن تتمثّل في الحكومة العتيدة بقدر تمثيلها في حكومة تصريف الأعمال او بأقل منه، خصوصاً بعد الانتخابات النيابية التي أظهرت حجماً نيابيّاً وشعبيّاً كبيراً يستحيل تجاوزه، ويعّد تكتلها من التكتلات الكبرى، وحجمها الشعبي يوازي حجم شعبية «التيار الوطني الحر»، بالإضافة إلى دورها على المسرح الوطني ومساهمتها الكبرى في انتخاب العماد عون رئيساً.


وفي موازاة كل ذلك تعاملت «القوات» وتتعامل بليونة تامة مع المفاوضات الحكومية، وأبقت قنواتها مع رئيس الجمهورية مفتوحة، وقبلت بصيغ عدة أقل من الحد الممكن، إنما مع الحفاظ على تمثيلها وحجمها ودورها. وعلى رغم ذلك لم تتزحزح العقدة المسيحية بسبب تمسّك البعض بتصوّر محدد وغير منطقي لحجم «القوات». والأطرف انّ جهة رسمية تقصّدت تعميم المعايير التي ترغب في ان يرتكز التأليف على أساسها والقائمة على أساس وزير لكل 4 نواب، فأعطَت «القوات» 3 وزراء علماً انه يجب اعتماد الكسر الأعلى فتأخذ 4 وزراء على أساس 15 نائباً، فيما تكتل «لبنان القوي» الذي احتسبَته الجهة الرسمية 25 نائباً، بعدما حسمت منه 4 نواب لتكتل الجبل مع النائب طلال ارسلان، أعطته 7 وزراء، علماً انه يجب أن يأخذ 6 وزراء يمثلون 24 نائباً والكسر الأدنى لا يحتسب، وطبعاً إلى جانب وزير لتكتل الجبل ما مجموعه 8 وزراء زائد 3 لرئيس الجمهورية.


فعَن أي معايير علمية يتم الحديث في ظل حرمان «القوات» من وزير رابع على أساس 3 نواب، ويتم منح «لبنان القوي» وزيراً مقابل نائب واحد؟ وفي مطلق الأحوال الجدول الذي تمّ نشره يظهر بوضوح انّ الهدف الأول هو الحصول على الثلث المعطِّل الذي لا يمكن الحصول عليه إلّا بعد احتساب حصة «القوات» 3 وزراء.


ثالثاً، يُدرك القاصي والداني انه عندما قرر النائب وليد جنبلاط إسقاط النائب طلال ارسلان في استحقاق العام 2005 نجح في إسقاطه، وبالتالي نيابته رهن قرار جنبلاط وليس حيثية إرسلان الشعبية، ولذلك عندما أراد توجيه رسالة لإرسلان وصلت الرسالة بالملآن، وإعادة انتخابه تمّت بسبب عدم ترشيح منافس إشتراكي له، كما انها تمّت نتيجة حسابات جنبلاطية تجنّباً لأن تملأ الفراغ شخصية أخرى غير ارسلان.


هذا في الوقائع التي لا نقاش فيها، والوقائع الانتخابية ما زالت نفسها ولم تتبدّل، وخيار جنبلاط كان وما زال استقرار البيئة الدرزية من ضمن المعادلة الحالية.

ولكن إرسلان وجدَ بالتحالف مع الوزير جبران باسيل مناسبة لاستعادة ثنائية طَوتها الحرب وما بعدها، وهذا حق من حقوق إرسلان، ولكن تحقيقه يتم في انتخابات 2022 وليس في انتخابات 2018 التي أفرزت أحادية درزية لا ثنائية.


وعلى كل طائفة ان تفرز توازناتها من دون تدخّل من الطوائف الأخرى، وهل يعقل ان يتدخّل المسيحي في بيئات غيره، وهو أكثر مَن عانى من التدخلات في بيئته؟ وفي موازاة كل ذلك ايّ قبول جنبلاطي بتوزير إرسلان عن طريق باسيل او بعضلاته يؤدي إلى ولادة عرف جديد يصعب إسقاطه لاحقاً، الأمر الذي لن يقبل به جنبلاط الذي يريد أيضاً انتقالاً هادئاً من زعامته إلى زعامة نجله.


من هنا إلى أين؟ إذا كان اي من المكونات الثلاثة غير قادر موضوعياً على التنازل، وإذا كان الفريق الثاني لا يُبدي اي ليونة أو استعداد للحوار ويتمسّك بشروطه، هذا يعني ان لا حكومة في الأفق سوى في 4 حالات:


في حال سلّم الفريق الأول بشروط الثاني، وفي حال سلّم الثاني بشروط الأول، وفي حال حاول الأول والثاني الوصول إلى المساحة المشتركة، وفي حال نجح الفريق الثاني في إحراج الفريق الأول لإخراجه من منطوق التأليف من أجل تأليف حكومة أكثرية.


وأيّ مراجعة لواقع الحال تُظهر انّ العمل منذ اللحظة الأولى يتركز على الحالة الرابعة، اي حالة الإحراج للإخراج، فـ«القوات» مثلاً انتزعت جزءاً من رصيدها وهي في الحكومة، لا المعارضة، وبالتالي المطلوب إخراجها من الحكومة لمنعها من مضاعفة رصيدها وتسهيلاً لمهمة البعض الحكومية.

و«الإشتراكي» يشكّل حلقة صراع بديلة عن حركة «أمل» التي تشكّل المواجهة معها رفضاً من «حزب الله». ويبقى الرئيس الحريري الذي تمارس كل الضغوط عليه لتحميله مسؤولية عدم التأليف لدفعه إلى الاعتذار لإعادة التكليف، فيوضع أمام معادلة مستحيلة ولكن بسيطة: مصير التكليف الجديد سيكون نفسه في حال تمسّك بالشروط نفسها، وبالتالي أمامه خيار من اثنين: التأليف وفق شروط الوزير باسيل او الاعتذار لتكليف شخصية بديلة تؤلّف وفق دفتر الشروط الموضوع، علماً انّ الرهان كان على ان يؤلّف الحريري الحكومة، كونه يشكّل مطلبا محليا وعربيا ودوليا واقتصاديا، ولكن وفق الشروط المطلوبة.


ولكن هل يتحمّل العهد وجود «المستقبل» و«الإشتراكي» و«القوات» خارج الحكومة؟ وماذا لو لم تنجح خطة الإحراج للإخراج ودفع الحريري إلى الاعتذار، ولن تنجح، فهل تستمر حكومة تصريف الأعمال إلى ما شاء الله، أم يضطر باسيل إلى التراجع للبحث عن حلول وسطى؟


هناك من يراهن على السيناريو الآتي: رفع منسوب الضغط الإعلامي على الثلاثي «المستقبل» و«الإشتراكي» و«القوات» بتحميله مسؤولية المراوحة في التأليف لاعتبارات إقليمية، ودفع «القوات» و«الإشتراكي» إلى رفض ما هو معروض عليهما وانتقالهما إلى المعارضة من أجل وضع الحريري أمام خيار من اثنين: إمّا التأليف من دونهما او الانتقال معهما إلى المعارضة، وذلك من دون إغفال الرهان أيضاً على حاجة الحريري إلى الاستمرار في الحكومة والتي ستدفعه، ولو مُرغماً، إلى ترؤس حكومة من دون «القوات» و«الإشتراكي».


ولكن هذا السيناريو لن يتحقق لثلاثة أسباب أساسية: الحريري لن يعتذر ولن يؤلّف من دون «القوات» و«الإشتراكي»، و«القوات» لن تقبل إلّا بتمثيل كَمّي ونوعي، و«الإشتراكي» لن يقبل بتوزير النائب طلال ارسلان.