يوم دُفن إيليّا أحدثت جنازته ودفنه ثورةً في القرية. عدد من الأفكار القديمة تعرّض للاهتزاز، وعدد من القناعات الجديدة تسلّل إلى عقول الناس.


جثّة إيليّا نُقلت من هنغاريا، حيث عاش طويلاً، بعدما درس وتزوّج واحدة من فتياتها. والده الشيوعيّ سبق أن أمّن له منحة دراسيّة إلى ذاك البلد في أواخر الخمسينات، وانتهى المطاف بإيليّا مهندساً لامعاً بحيث تولّى موقعاً مُعتبراً في إحدى مؤسّسات القطاع العامّ. فحين أودت به سكتة قلبيّة وأريد دفنه في مسقط رأسه، رافقه حوالى عشرين هنغاريّاً وهنغاريّة، فضلاً عن زوجته وطفليهما. لقد توزّع الضيوف الهنغار بين أقارب لزوجته وأصدقاء وزملاء ورفاق له، لكنّهم كلّهم كانوا ممشوقي الأجسام، ذوي شعور شقرٍ وعيون زرق.

هنا هزّت الثورة القرية النائمة: شيوعيّون ذوو عيون زرق وشعور شقرٍ يُشاهَدون بكثرة في القرية! هذا غير معهود في حسابات أهلها وتوقّعاتهم. فالأميركيّون والإنكليز والفرنسيّون، وربّما الألمان، هم الذين تكون شعورهم شقراً وعيونهم زرقاً. أمّا الشيوعيّون فلم يتخيّل أهل القرية أنّ لهم لوناً، مع أنّ بعضهم، الأكثر حبّاً لأميركا، كانوا يصفونهم بصُفْر الوجوه بسبب ما يُنسب إليهم من حقد على الأغنياء.

«لا تبالغوا. إنّهم، في أحسن أحوالهم، سُمرٌ مثلنا، عيونهم سود أو عسليّة»، قال جود محاولاً أن يخفّف من آثار الانبهار بألوانهم، «وفي كلّ بلد من البلدان أقلّيّةٌ صغرى يكون لها شكل مختلف، لكنّ هذا لا يُعوَّل عليه».

إلاّ أنّ مريم اعترضت: «هم جميلون، بل أجمل منّا. ليس بينهم قبيح واحد. قاماتهم أطول من قامات الرجال عندنا، وليس يهمّ ما إذا كانوا شيوعيّن أو غير ذلك؟». أمّا غسّان الذي لم يُعرف بأيّ ودّ للشيوعيّة، وإن وُصف بالنزاهة والتجرّد في أحكامه، فأضاف: «أنا رأيتهم بعينيّ الاثنتين، في القدّاس داخل الكنيسة. كانوا يقفون بكلّ أدب ويُنصتون لتلاوة الإنجيل».

الكلام عن الشيوعيّين الهنغار غزا بيوت القرية واستوطن مقاهيها مثيراً من البلبلة ما لا يُستهان به. لقد بدا الأمر أشبه باكتشاف لم يتوقّعه أحد: شيوعيّون شعورهم شقر وعيونهم زرق! بيد أنّ نعمان، شيوعيّ القرية منذ عشرات السنين، وجد الفرصة سانحة كي يردّ الصاع صاعين لخصومه الكثيرين: «وماذا تعرفون أنتم عن الشيوعيّين يا مَن أعمت أميركا وإذاعة لندن قلوبكم؟ الشيوعيّون كانوا ولا زالوا أجمل الشباب والصبايا، وهم كلّهم مؤمنون، بل مؤمنون أكثر منكم، لكنّ مسيحهم غير مسيحكم المزيّف والتجاريّ. إنّه فادي الفقراء والمقهورين. وهم لا يحتاجون إلى رجال دين يعلّمونهم دينهم لأنّهم يعرفون دينهم الحقيقيّ».

نعمان اعتبر أنّ الظرف مؤاتٍ كي ينتقل إلى الهجوم مزوَّداً بحجج هنغاريّة حيّة ودامغة. فلسنوات مديدة عاملَهُ أهل القرية بشيء من الخشونة والاستبعاد. لقد سخروا من إعجابه بروسيا، وردّوا كلّ عثرات حياته إلى تلك الشيوعيّة التي اعتنقها منذ شبابه الأوّل. فهو، بسببها، ظلّ فقيراً، وبسببها، لم يتزوّج ولا بنى بيتاً لائقاً أو لبس ثياباً زاهية وجميلة. وهذا فضلاً عن الكفر الذي نسبوه إليه ظانّين أنّه عبدُ ستالين بدلاً من الربّ الخالق، قبل أن ينتقل، مغلوباً على أمره، إلى عبادة خروتشوف. في الآن ذاته، كان لجون كينيدي أن زاد في إحكام الضيق والحصار على نعمان. فهو الشابّ الجميل ذو الزوجة الشابّة الجميلة، وهو كذلك مَن «سيَفُكّ رقبتكم في كوبا»، كما قال جود غاضباً ذات مرّة، موجّهاً كلامه إليه وقاصداً الشيوعيّين جميعاً.

هجوم نعمان المضادّ جاء بلا رحمة: «يقولون جون كينيدي! ههههههه! أبشع شابّ عندنا في المعسكر الاشتراكيّ أجمل منه، وأبشع فتاة أجمل من عاهرته التي لا يتوقّف عن عرضها واستعراضها. أنتم رأيتم بعض الشبّان الهنغار لكنّكم لم تروا التشيكوسلوفاكيّين، ولا رأيتم الألمان أو الروس. يا إلهي! ما الذي ستقولون لو رأيتموهم؟!». وكان نعمان لا يلبث أن ينتقل إلى نوع الممارسات الأخلاقيّة والدينيّة: «هؤلاء ليسوا رأسماليّين. لا يبيعون نساءهم كما يفعل الأميركان في سبيل الدولار. إنّهم يصلّون من دون أن يراهم أحد لأنّهم لا يفعلون ذلك طلباً لغاية أو لمال. هم لا يصلّون في الكنائس حيث يراهم الآخرون، بل يصلّون في بيوتهم بعيداً من الأعين».

هذا الهجوم الكاسح واجهه بعض أهل القرية بالتأمّل والمراجعة. «ربّما كان نعمان على حقّ»، قال المعتدلون والمستعدّون للأخذ والردّ بعدما واجهتهم الحقائق الهنغاريّة التي لا تُدحض. «لكنّ الشيوعيّين الذين نعرفهم ليسوا هكذا»، قال جود الذي آثر ألّا يستسلم للوقائع الجديدة، «انظروا إلى نعمان وانظروا إلى ميشال، والد المرحوم إيليّا. هما ليسا أجمل من باقي سكّان القرية، بل أغلبيّةُ السكّان هنا أجمل منهما. الشيوعيّون هناك، في هنغاريا، قد تكون أعينهم زرقاً وشعورهم شقراً، لكنّ هذا لا يصحّ بتاتاً عندنا».

نعمان لم تستوقفه هذه المداولات فمضى يصعّد ويردّد تلك العبارة التي باتت أشبه بشعار: «عندنا في المعسكر أحلى الشباب والصبايا». لكنّه بعد يومين أو ثلاثة، أضاف إلى حججه حجّة جديدة: فالشيوعيّون في المعسكر «كلّهم أغنياء. الواحد منهم يملك بيتين وسيّارتين، لكنّهم يأكلون لقمتهم بعرق جبينهم»، وهنا، في هذه اللحظة، كان يرفع سبّابته في وجه مُحدّثه: «لا أحد من هؤلاء جنى ثروته من طريق الاستغلال والغشّ كما الحال هنا وفي أميركا».

لكنّ أهل القرية ردّوا بطريقتهم على هجوم نعمان، فاستحوذوا على بعض حججه وقلبوها ضدّه. صاروا يقولون مثلاً أنّ الهنغار عرّفوهم إلى شيوعيّة غير شيوعيّته، فـ «كلّهم مؤمنون ومتعلّمون وجميلون شعورهم شقر وعيونهم زرق». حتّى جود نفسه صار يقول أنّ تلك هي الشيوعيّة الحقيقيّة التي لو وُجد مثلها عندنا لانتسب إليها، فيما الشيوعيّة التي نعرفها «بلا لون ولا طعم ولا رائحة». وتُرك لنعمان أن يهزّ رأسه بشيء من الحسرة: فهو، وقد فشل في استثمار اللحظة الهنغاريّة، تأكّد من أنّ مُحبّي الدولار في القرية لن يستسلموا بسهولة.