تُعدّ قضية تولّي «القوات اللبنانية» أو أيِّ حزب أو تيارٍ آخر من قوى «14 آذار» وزارة الخارجية مسألةً أدقّ من تولّي وزارة الدفاع أو أيّ حقيبة سياديّة أخرى، لأنّ المسألة أبعدُ من المحاصَصة وتوزيع الحقائب.
 

تعتمد الدولُ الموحَّدة ذات السيادة الكاملة على أراضيها وصاحبة القرار الحرّ المستقلّ سياسةً خارجيةً واحدة، إذ لا تتأثر بالأشخاص الذين يتولّون المراكزَ والحقائب. ويُعتبر لبنان من تلك البلدان إنشائياً، لكن فعلياً، لكلّ حزب أو فصيل سياسي نظرتُه الخاصة إلى السياسة الخارجية والتحالفات مع دول العالم.


وبطريقة أخرى، فإنّ البلد الذي يُعتبر حليفَ هذا الفريق هو عدوّ الفريق الآخر. على سبيل المثال فإنّ دول الخليج وأميركا هي حليفة «14 آذار»، بينما يصنّفها «حزب الله» وحلفاؤه بالأعداء، فيما يعتبر الأخير أنّ إيران والنظام السوري حليفاه، بينما هما عدوّا «14 آذار».


منذ تأسيس وزارة الخارجية اللبنانية عام 1938 وتولّي حميد فرنجية المنصب، تواجه السياسة اللبنانية الخارجية مطبّاتٍ عدّة.


ويصنَّف عهدُ الرئيس بشارة الخوري بالأقرب الى البريطانيين منه الى الفرنسيين، فيما يُعتبر عهدُ الرئيس كميل شمعون مدرسةً في السياسة الخارجية خصوصاً مع وزير خارجيته شارل مالك، وقد شهدت البلاد الصراع بين الشرق والغرب و»حلف بغداد» ومواجهة المدّ الناصري، وصولاً الى عهد الشهابية الذي برّد الأجواء مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. ثمّ أتت الحرب وتولّى الوزير فؤاد بطرس وزارة الخارجية، بينما شهدت السياسةُ الخارجية تغيّراتٍ في عهد الرئيس أمين الجميل.


وفي فترة السيطرة السورية، كان نظام الأسد يستغلّ علاقاتِ الرئيس الشهيد رفيق الحريري ويعتمد عليه في الكثير من القضايا، إلى أن انسحب الجيش السوري واستلمت قوى «8 آذار» وزارة الخارجية.


وبعد تولّي عدنان منصور الخارجية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، خاضت «14 آذار» معركة إعادة تصويب سياسة الوزارة بعد الاتّفاق على سياسة «النأي بالنفس»، فتولّاها الوزير جبران باسيل في حكومة الرئيس تمام سلام.


هذه المراجعة تكشف أهمّية وزارة الخارجية خصوصاً في هذه المرحلة بالذات، وتتفوّق بأهمّيتها على وزارة الدفاع التي كانت تطالب «القوّات» بها، ويعود هذا الأمر لأسباب عدّة أبرزها:

أوّلاً: وزارة الدفاع ذات سلطة معنويّة بوجود قيادة الجيش، بينما وزير الخارجية هو صاحب الكلمة الفصل في وزارته.

ثانياً: يُطرح سؤال كبير، وهو: هل يقبل «حزب الله» بتسليم وزارة الخارجية الى وزيرٍ قوّاتي أو من فريق «14 آذار»؟ على رغم ما يتردّد من أنّ الثنائي الشيعي لا يضع «فيتو» على تولّي «القوات» حقيبة سيادية.

ثالثاً: هذه المرحلة حرِجة بالنسبة إلى إيران وحلفائها، وهي تحتاج الى موقفٍ لبنانيٍّ رسميّ معتدل تجاه الملفات التي تزعجها، وهذا الموقف كان يضمنه الوزير باسيل، وبالتأكيد فإنّ الوزير القواتي لن يكون الى جانب مطالب إيران.

رابعاً: ما ينطبق على إيران ينطبق أيضاً على النظام السوري، فوزير خارجية من «8 آذار» أو من «التيار الوطني الحرّ» وفريق رئيس الجمهورية لا يمانع التطبيعَ مع النظام، بينما الوزير القواتي يرفض هذا الأمر بالمطلق، ولا يريد أن يستغلّ النظام مسألة النازحين كـ»حصان طروادة» لعودته السياسية الى لبنان.

خامساً: تُعتبر وزارةُ الخارجية أساسيةً بالنسبة الى البعض في معركة رئاسة الجمهورية عام 2022، والرئيس يُنتخب من الخارج وليس من الداخل، وهذا الأمر سيكون محلَّ كباش بين «القوات» و»التيار الوطني الحرّ» في المرحلة المقبلة، لأنّ زعيمَي القوات والتيّار مرشحان الى الرئاسة، ولن «يُفلت» باسيل هذه الورقة من يده ويعطيها لخصمه حتى لو لم يتولّ وزارة الخارجية شخصياً.

سادساً: يُعتبر وزيرُ الخارجية الناطقَ الرسمي باسم لبنان في الخارج، ومعروف أنّ توجّهات «القوات» و»14 آذار» مغايرة للفريق الآخر، وبالتالي فإنّ الاصطفافَ الطبيعي سيكون الى جانب المحور العربي في مواجهة المحور الإيراني- السوري، خصوصاً أنّ مصالح لبنان مع دول الخليج هي أكبر بكثير من مصالحه مع إيران.


وأمام هذا الواقع، يبدو أنّ ما أفصح عنه «التيار الوطني الحرّ» من أنه لا يمانع تولّي «القوّات» الخارجية، من ثمّ تراجع عن هذا الكلام، لا يعدو كونه «بالونَ» اختبار أو حتّى رسالة الى الحلفاء قبل الخصوم والذين لا يساندونه في معاركه الوزارية وخصوصاً المعركة الدائرة مع «القوّات».


وتبقى الموانعُ الخارجية أكثرَ من الموانع الداخلية التي تحول دون تولّي «القوات» الخارجية، خصوصاً أنها ستنتهج سياسةً خارجيةً واضحة، ولا تقبل بضرب علاقات لبنان مع الدول العربية، ولن تقبل بالتطبيع مع النظام السوري وستركّز في خطابها على دعم استقلال لبنان وسيادته.