أكاديميون حذروا من اختلال التوازن... وسياسيون حوّلوها إلى «مرفق خدمات»
 

«انفجر» ملف الجامعة الوطنية في لبنان قبل أيام، مع استدعاء الباحث والمؤرخ والأكاديمي الدكتور عصام خليفة، للمثول أمام القضاء بعد أن وجه إليه رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد أيوب، تهمة «القدح والذم». وتأتي هذه القضية لتضيف إلى ما يدور حول الجامعة الوطنية من قضايا شهدتها خلال السنوات الماضية، من بينها اختفاء التنوع الطائفي عن هذا المجمع الذي أنشأه رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري ليجمع الشباب اللبناني في حرمه ويدمجهم في أجواء وطنية بعيداً عن الطائفية.

أما جريمة خليفة، فهي مطالبته رئيس الجامعة، بكشف ملابسات اتهامه بتزوير شهادته، وعن تقديمه وثائق للنائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، بما فيها محضر مجلس الجامعة بتاريخ 18 أبريل (نيسان) 2018 الذي تقرر فيه منح أيوب أربع درجات، أي ما مجموعه 250 مليون ليرة (165 ألف دولار) تعويضات منذ عام 1994 إلى اليوم.

خليفة اتهم أيوب باستغلال النفوذ، وعلى القضاء أن يقول كلمته بهذا الخصوص وبخصوص الدعوى المقامة عليه بشأن تزوير شهادة الدكتوراه.

ويوضح خليفة لـ«الشرق الأوسط»، أن «الجامعة اللبنانية صرح وطني فيها أهم الأساتذة، ونحن لا نريد أن نضر بها، فهي عصب النظام التربوي، وهي اليوم مهددة بالانهيار، ما سوف يترك تداعيات على مختلف القطاعات الأساسية والحيوية في لبنان. من هنا نطالب رئيس الجامعة بإبراز شهادته ليقطع الشك باليقين ويتحدى الدكتور عماد الحسيني الذي رفع الدعوى واتهمه بتزوير شهادة الدكتوراه، ويرفع دعوى مضادة ويطالب بعطل وضرر، عوضاً عن التدخل لإيقاف الشكوى واستعمال التهديد ضد كل من يثير القضية، منذ تعيينه قبل نحو عامين».

رئيس جمعية أصدقاء الجامعة الدكتور المتقاعد أنطوان صياح، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لم تُطرح على امتداد تاريخ الجامعة، مسألة التشكيك بشهادة رئيسها. فأكبر مصدر لمنح الشهادات، لا يبرز شهادته ليقطع حبل التشكيك به، والمسؤولية هنا تقع على القضاء، لأن الوضع خطير».

والجامعة الوطنية التي تأسست قبل 67 عاماً، تضم في كليّاتها 79 ألف طالبة وطالب في الاختصاصات كافّة، كانت تحافظ على سمعة جيدة قبل الحرب الأهلية. لكن أحوالها تغيرت لتعكس مشكلات عديدة كما هو الحال في مختلف القطاعات في لبنان. وباتت أسيرة المحاصصة والمحسوبيات.

وخلال السنوات الماضية، شهدت الجامعة الوطنية، وتحديداً مجمعها الأكبر في منطقة الحدث في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث الغلبة لـ«حزب الله»، مظاهر هيمنة نافرة. وأدى هذا الأمر إلى نزوح طلاب لا يتوافقون وسياسة «الثنائية الشيعية»، بالتالي اختفاء التنوع الطائفي عن هذا المجمع.

والعد العكسي للجامعة اللبنانية بدأ خلال الحرب عبر تدخلات قوى الأمر الواقع. ويقول الأستاذ المتقاعد الدكتور شربل كفوري لـ«الشرق الأوسط»: «كان صعود الجامعة مثل السهم، تضررت خلال الحرب وسُرقت محتوياتها وتدخل النافذون لفرض الحصول على إجازات أكاديمية في بعض الكليات. لكن بقيت الآثار السلبية محدودة قياساً إلى ما حصل بعد عودة السلم الأهلي. فقد انكشف واقع جديد في لبنان تولاه زعماء الطوائف، وانسحب الأمر على الجامعة الوطنية توظيفاً. فقد اعتبر السياسيون أن الجامعة مرفق خدمات خاصة، وبالغوا في تدخلهم. ووصل الأمر إلى الذروة عام 1998، حين صادر مجلس الوزراء صلاحيات الجامعة التي كان يفترض أن تبقى بيد رئيسها ومجلسها».

ويقول صياح: «علة الجامعة اللبنانية في عدم نموها كما يجب أن تنمو الجامعات الراقية. فمن أصل 210 آلاف طالب جامعي في لبنان، هناك 79 ألف طالب في الجامعة اللبنانية، أي ما نسبته 35 في المائة، في حين كانت قبل 20 عاماً تضم ما نسبته 65 في المائة من طلاب لبنان. فهي لم تحسن تطوير نفسها لتجذب شرائح الطلاب من خلال اختصاصات لها فعاليتها في سوق العمل، في حين تنمو الجامعات الخاصة كالفطر، وبعضها يصدر شهادات غير محترمة».

ويضيف صياح: «العلة كذلك تعود إلى إهمال الدولة لها، ومهما كان الوضع الاقتصادي فيجب ألا يمس قطاعين هما الصحة والتربية، لأنهما ينمّيان رأس المال البشري لهذه الدولة. لكن الحاصل هو تقليص متواصل لموازنة الجامعة اللبنانية ما يؤثر على المستوى التعليمي لطلابها إذا تقلصت الموازنة».

ويكشف خليفة أن «الاتحاد الأوروبي حذّر من أنه إذا بقيت حال الجامعة على ما هي عليه، قد يرفض الاعتراف بشهاداتها. ولفت إلى أن من يحمل إجازة في الآداب يصبح دكتوراً في الهندسة المعمارية من دون أي تحصيل علمي سوى الواسطة، التي أصبحت المعيار الوحيد للأساتذة والتعيينات والإداريين. والتراكمات جعلت كل عهد أسوأ من الذي سبقه في إدارة هذه المؤسسة الوطنية».

وتروي أستاذة جامعية تتحفظ عن ذكر اسمها، أن «مدير الكلية كان يطلب إليها رفع علامات الطلاب الذين لم يحصلوا على المستوى اللازم للنجاح، حتى لا يقال إن نسبة الفشل والرسوب لديه كبيرة».

ويشير خليفة إلى أن «الأزمة انفجرت لأن الرئيس الحالي أيوب يستخف بأهل الجامعة، وعدا الشك بشهادته، فهو يخالف القانون 6-70 الذي ينص على التفرغ وعدم العمل في مجال آخر، فهو صاحب عيادة طب أسنان. وبعض العمداء لديهم أعمالهم الخاصة».

وينبه خليفة إلى أن «المفروض أن يتحرك المسؤولون لأن الجامعة في خطر، لذا لا مجال للفلفة الموضوع، لا سيما أن هناك قوى طرحت القضية من دون خلفيات مذهبية وشخصية. يهمنا المستوى التعليمي فيها لتبقى جامعة قوية. ولا تحل محلها الجامعات الخاصة».

ويقول صياح: «تسيطر المافيات على التلزيمات من خلال المناقصات. والأمر ربما لا يتعلق مباشرة بإدارة الجامعة، لكن بواقع لبنان، حيث تجيد المافيات عملها وتتسلط على مرافق الدولة ككل، ومن ضمنها الجامعة اللبنانية. ولا تستطيع الإدارة مهما دققت التملص من شباكها. لكن ما يمكن تحمله في قطاعات أخرى يؤثر على فعالية الجامعة».

أما د.شربل كفوري فيقول إن «التدخل السياسي بدأ يستفحل مع تعيين رؤساء للجامعة محسوبين على من عيّنهم، ومرغمين بالتالي على أداء الخدمات المطلوبة كلها، فمن يعطي يأمر، ويفرض ما يشاء بمعزل عن مصلحة الجامعة».

ويضيف: «تم تعيين مدربين في كل الكليات وبشكل عشوائي وليس وفق الأصول. في بادئ الأمر كان التعيين لملء الشواغر جراء تقاعد عدد كبير ممن هم في ملاكها، لكن بعد ذلك أفلتت الأمور، وقفز عدد المدربين من 200 إلى 1500 بفعل المحسوبيات والتوظيف العشوائي. ومع تعاقب الرؤساء لم تعد تؤخذ المعايير المطلوبة لجهة الحاجة والكفاءة».

عن قرار التفرغ، يوضح صياح أن «الأخطاء تتكدس من رئيس إلى آخر، وآخرها كان عام 2014 مع تفريغ أساتذة بعدد كبير من دون التحقق من صحة شهاداتهم ومستواهم الأكاديمي، مع تغلغل السياسة إلى حد غير مسبوق. والعلة ليست في التفرغ لكن في الطريقة المعتمدة بعد توقف ثماني سنوات، ما يهدد بإفساد مستوى الجامعة. لدينا سبعة آلاف أستاذ بينهم 1000 أستاذ في الملاك و2000 أستاذ متفرغ، والباقون يعملون على الساعة، أي أن لدينا لكل عشرة طلاب أستاذاً جامعياً، وهذا وجه من وجوه الهدر».

يقول كفوري: «لا يزال الأمر يخضع للتدخلات السياسية ويترافق مع تدخلات الأحزاب بحجة التوازن الطائفي. حتى إن بعض الأساتذة المسلمين الذين يستحقون التفرغ كانوا يفتشون عن عدد أساتذة مسيحيين يوازيهم ليصلوا إلى حقوقهم. أكثر من ذلك الأحزاب على اختلافها، لديها مكاتب تتولى شؤون الأساتذة الذين يريدون التفرغ ويسجلون أسماءهم في هذه المكاتب ليتم بعد ذلك فرضها على إدارة الجامعة».

ويرفض كفوري التحجج بـ«حماية التوازنات الطائفية لضرب المستوى الأكاديمي الذي يمكن أن يتحقق وفق معايير واضحة وأكاديمية سليمة».

ويوضح: «التفرغ يتطلب أن يدرِّس الأستاذ الجامعي عشر ساعات، وهذا النظام غير موجود إلا في لبنان، فالأساتذة الكبار في الجامعات يقدمون محاضراتهم ثم ينصرفون إلى مهنهم الأصلية، ككبار القضاة أو الأطباء أو المحامين أو المهندسين، وليس مفروضاً أن يكون الجميع في ملاك الجامعة كما يحصل عندنا ويزيد الأزمات أزمة جديدة».

ويرى كفوري أنه «لا يمكن تحميل المسؤولية للجامعة ورئيسها ومجلسها دون سواهم، فتدخُّل السياسيين يجعل هذه المؤسسة الوطنية غير محصنة، وغالباً ما يصار إلى عرقلة معاملاتها داخل مجلس الوزراء لغايات خاصة. لذا، يجب أن يكون رئيس الجامعة ومجلسها أكثر قدرة على ضبط الإيقاع مالياً وإدارياً بمواجهة السياسيين».

ويشير صياح إلى «الأجندات المذهبية التي تهدد التوازن في الجامعة، من خلال التسلل إلى الفروع الموجودة في المناطق ذات الأكثرية المسيحية بفرض أساتذة من خارج هذه المناطق، رغم توفر أساتذة منها يتميزون بالكفاءة، ولدى الاجتماع به كان يَعِد وبعد ذلك لا يفي بوعوده. كأن المطلوب أن يتحول الجسم الأكاديمي إلى غالبية من لون واحد».