لا تُقاس «وزنة» الدعم التي تقدّمها دار الفتوى برئاسة المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان، لرئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري، بـ«وزنة» وقوفها إلى جانبه عشية الانتخابات النيابية، لا بل انحيازها بالكامل لمصلحته، ومن تجليّاتها تنظيم لقاء موسّع له مع حشد من العلماء والمشايخ والأئمّة.
 

ولا تُقاس أيضاً بتصدّيها للحملة التي تستهدف رئيس الحكومة المكلف واتّهامه بعرقلة التأليف، متبنيّة وجهة نظره. إذ أكد دريان أمس، خلال تدشينه مسجداً في الجيّه، أنّ رئيس الحكومة المكلف «هو صاحب القرار والخيار في عملية التأليف، بالتشاور مع رئيس الجمهورية، وأنّ التأخير في التأليف، لا يتحمّله الحريري وحده»....


و الأهم من كل هذا، تحوّل دار الفتوى، خلال «أزمة الاستقالة» في تشرين الثاني الماضي، محجّاً لـ«الشاكين» من «أهل السنّة»، و»مرجعية وكيلة» في غياب «الأصيل»، رافضةً التسليم بمنطق «الاستسلام».


وأكّد دريان، بعد استقباله القائم بأعمال السفارة السعودية في لبنان وليد البخاري في الخامس من تشرين الثاني الماضي، أنّ «استقالة الرئيس سعد الحريري من الحكومة شكّلت صدمةً ولم تأتِ من فراغ”، لافتاً إلى «أننا نؤيّده وندعمه ونتفهّم هذه الاستقالة وينبغي أن نعالجها بالرويّة والحوار».


بهذا المعنى، تُسجّل لدار الفتوى «حمايتها» زعامة الطائفة «المدنية» في مفترق مصيريّ كان يمكن أن يكون مدخلاً لمتغيّرات كبيرة فيما لو أومأ المفتي برأسه باتّجاه أيّ شخصية سنّية بديلة. لكنه لم يفعل.


ولهذا يقول أحد المعنيين، إنّ مواقف مفتي الجمهورية من أزمة التأليف ليست غريبة عنه أو استثناء في مساره. وإنما القاعدة التي يحافظ عليها منذ انتخابه.


الجديد هو عودة الحريري إلى قواعده السابقة في التشدّد، بعد مرحلة من «التسليم» امام العهد، كما يقول خصومه، حيث قدّم على طبق من فضة كل ما يلزم لانطلاقة قوية لرئاسة العماد ميشال عون، من تعيينات إدارية ودبوماسية وقضائية، ثم دفع ثمن قانون الانتخابات من «لحمه الحيّ».


اليوم، يدرك الرجل أنه لن يخسر شيئاً إذا رفض منطق التساهل والتنازل، لا بل هو مضطر إلى مراجعة أدائه بعد كل الخسائر التي تكبّدها. وهذه فرصته الأخيرة لتشكيل حكومة لا تتحوّل «مقصلته» عشية الانتخابات النيابية عام 2022.


وبعدما استعادت العلاقة مع «القوات» بعضاً من مجاريها، يتحصّن الحريري بهذا التفاهم الذي ترعاه السعودية، في محاولة لإعادة إحياء الاصطفاف العتيق ولكن تحت بيارق جديدة.


قيامة 14 آذار من «موتها»، ضربٌ من الخيال. تغيّرت الظروف وأحوال المنطقة، وتبدّلت الاهتمامات ومن خلفها الاصطفافات. لكنّ التناغم بين بيت الوسط ومعراب، وملاقاة المختارة لهما في الأجندة الحكومية، وأحياناً عين التينة، قد يشكّل نوعاً من تفاهم ثلاثي قابل للتوسّع في قضاياه واهتماماته. وليس أكثر من ذلك، وفق تأكيد وزير من هذا المحور.


ويشدّد الوزير على أنّ الحريري متساهل على عكس ما يحاول الفريق العوني الإيحاء به. فهو لا يضع شروطاً تعجيزية، بل يقف موقف الدفاع عن مصالحه ولا يعتدي على مصالح الآخرين. لذا لا يجوز وصف أدائه بالمتشدّد. هو بكل بساطة يحاول حماية ما بفي له من «امتيازات».


بنظره، الحريري لا يحاول إعادة عقارب الساعة إلى العام 2005، ولا إلى 2009. ولا هو يستطيع. هو يتعامل بواقعية مع الزمن السياسي ومقتضياته. بمعنى التصلّب في الحفاظ على مصالحه وصلاحياته بلا أوهام أو رهانات كبيرة: فقواعده مرتاحة أكثر للتفاعل مع القواعد القواتية وتلك التي تشبهها، كما أبلغ ضيفه رئيس حزب «القوات» سمير جعجع، خلال لقائهما الأخير، بعد تسوية الخلاف مع معراب وترميم الجسور. لكنه في المقابل لم ينقلب على الثوابت السياسية التي كرّسها منذ قرّر ربط نزاعه مع «حزب الله»، وهو قال أمام ضيفه إنّ التجربة الوزارية مع «الحزب» كانت جيدة، ولا مشكلة في تكرارها، مؤكّداً أن لا شروط تعجيزية للضاحية عليه.


بالإضافة الى كل ما سبق، لا يتردّد وزير سابق مطّلع على أداء رئيس الحكومة المكلّف، في القول إنه لا يستبعد أن يرفع الحريري يديه في أيّ لحظة. في الحكومة الماضية وقف جعجع إلى جانبه، وكذلك جنبلاط، لكنه آثر الارتماء في حضن العهد. فما الذي يمنع تكرارَ المشهد؟