راجت في العقود الأخيرة مقولة انه في حال ذهبت المنطقة برمتها الى سلام عادل وشامل مع إسرائيل، فإنّ لبنان آخر من يوقِّع السلام معها، والأمر نفسه ينطبق على سوريا، فإنّ لبنان يجب أن يكون آخر من يُطبِّع مع دمشق في حال اقتضَت ظروف العالم أجمع التطبيع، وهذه المعادلة لا تعني إطلاقاً عدم التمييز بين دولة عدوة ودولة عربية.
 

المقصود أعلاه انّ للبنان خصوصية في العلاقة مع سوريا تختلف عن علاقة سوريا مع سائر الدول العربية، وهذه الخصوصية مردّها الى انّ العلاقة بين البلدين لم تستقر يوماً على بر الأمان في ظل محاولات سورية دائمة ومستمرة لاستتباع لبنان لأسباب عقائدية او أطماع سياسية، ويمكن اختصار العلاقة الملتبسة، أو السيئة بالأحرى، ضمن 3 مراحل أساسية: مرحلة استقلال الدولتين حتى الحرب اللبنانية حيث كانت العلاقة متأرجحة بين المد والجزر مع عدم اعتراف ثابت بنهائية لبنان؛ مرحلة الحرب وما بعدها، وتحديداً حقبة الوصاية التي شهدت محاولات عملية لإلغاء لبنان وإلحاقه بسوريا؛ ومرحلة ما بعد الخروج السوري من لبنان والتي شهدت محاولات عدة للعودة إليه من باب السياسة والأمن، والنظام السوري متّهم بنحو ثابت ودامغ بمتفجرات ميشال سماحة وتفجير مسجدي «التقوى» و»السلام» في طرابلس.


ومبرّر هذا الكلام ارتفاع منسوب المواقف الداعية إلى إحياء العلاقات اللبنانية-السورية أخيراً، فكأنّ الحرب السورية انتهت ونشأ النظام الجديد وعَمّ السلام وسلّمت سوريا المتهمين بمحاولة التفجير في لبنان وأجريت مراجعة تاريخية للعلاقة المتردية بين البلدين بغية فتح صفحة جديدة للمستقبل على قواعد قوامها احترام سوريا لاستقلال لبنان وعدم التدخل في شؤونه، وأن لا تكون سوريا ممراً للاستقواء على لبنان وعلى فئات لبنانية معينة.


ويخطئ من يظن انّ العلاقة مع سوريا يمكن إمرارها وتهريبها وكأنّ شيئاً لم يكن، فحتى لو أعاد العالم برمّته تشريع الوضع السوري وتظليله، فالأمر لن ينسحب على لبنان قبل إتمام المراجعة الجدية المطلوبة وانتزاع لبنان تعهدات وضمانات بعدم العودة إلى ممارسات سابقة، علماً انه يصعب تغيير الذهنية المتحكّمة بهذا الفريق.


وفي أي حال فإنّ كل هذا الكلام سابق لأوانه، واي مراجعة لا يمكن حصولها قبل انتهاء الحرب ونشوء النظام الجديد الذي يحظى بمشروعية سورية وعربية ودولية، ولا يبدو انّ ذلك سيتحقق في القريب العاجل، بل هناك سنوات وسنوات من الحوارات والمفاوضات، وترتيب الوضع السوري لن يكون في منأى عن ترتيب وضع المنطقة. وبالتالي، في انتظار ذاك الحين فإنّ الكلام راهناً عن إحياء العلاقات اللبنانية - السورية مرفوض، فهذه العلاقات يجب ان تبقى على المستوى المتدني القائم، ومن لا يعجبه الأمر سيتحمّل مسؤولية الإطاحة بالتسوية القائمة.


وتذكيراً، فإنّ التسوية السياسية التي تجسدّت في انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وأدّت إلى انتظام مؤسساتي غير مسبوق منذ العام 2005، ارتكزت على استبعاد الملفات الخلافية وفي طليعتها العلاقة مع النظام السوري، وتذكيراً أيضاً انّ من الأسباب الرئيسة لاستقالة الرئيس سعد الحريري في 4 تشرين الثاني الماضي محاولات فرض التطبيع بالقوة، وبالتالي من يعتقد انّ في استطاعته إحياء العلاقات من دون ان تتأثر التسوية والاستقرار فهو مخطئ تماماً. فالعلاقة مع النظام السوري من الخطوط الحمر، وايّ دفع إضافي في هذا الاتجاه سيؤدي، ليس إلى إحياء العلاقات اللبنانية - السورية، بل إلى إحياء الانقسام العمودي القديم والاصطفافات السابقة وانهيار الاستقرار السياسي وتعطُّل الانتظام المؤسساتي.


وحل المسائل الخلافية لا يكون من طريق الغلبة وفرض سياسة أمر واقع وانتصار وجهة نظر فريق على وجهة نظر الفريق الآخر، إنما يكون عن طريق الحوار وتفهُّم وجهة النظر الأخرى، وهي ليست وجهة عبثية، إنما ترتكز على تجربة تاريخية سوداء.


ومن يعتقد انّ موازين القوى الإقليمية والداخلية تسمح له بقلب الطاولة فما عليه سوى أن يحاول، وليتحمّل مسؤولية محاولته، وإذا كان يعتقد انّ البلد «بيمشي» من دون تيار «المستقبل» و»القوات» و»الإشتراكي» فعليه أن يبادر فوراً إلى التطبيع وتأليف حكومة من لون واحد تقود لبنان إلى الانهيار الحتمي السياسي والمالي.


وقد يكون الطرف الأكثر تضرراً من وضع هذا البند الخلافي على الطاولة هو العهد الذي تكمن كلّ قيمته في انه أعاد الاستقرار والانتظام، فيما لن يعود هناك من يخبِّر عن استقرار وانتظام، وبالتالي من مصلحة العهد بالدرجة الأولى، وكل القوى السياسية تالياً، التعقّل بغية الحفاظ على هذا الإنجاز الوطني المتمثل بالاستقرار.


وفي هذا السياق لا بد من لفت النظر إلى الآتي:

• أولاً، المواجهة الأميركية - الإيرانية ما زالت في بداياتها، ولا يبدو انّ واشنطن في وارد التراجع قبل: إمّا أن ينهار النظام الإيراني نتيجة الضغوط الاقتصادية، وإمّا أن يتخلى عن «سياسة الثورة» لمصلحة «سياسة الدولة».

• ثانياً، القرار في سوريا هو ملك روسيا، وإبعاد طهران عن الساحة السورية يجري على قدم وساق، ومن ثم روسيا اليوم تمارس دور الوصاية على النظام السوري، هذا الدور نفسه الذي كان يمارسه على لبنان، فلا نظام في سوريا إلّا شكلياً، وأي بحث جدي سيكون مع موسكو لا دمشق، فضلاً عن انّ الدور الروسي ليس متفلّتاً من «الضوابط» الأميركية.

• ثالثاً، لا يبدو انّ «حزب الله» في وارد مغادرة السياسة التي ينتهجها وهي تحييد الساحة اللبنانية لهدف إراحة بيئته وعدم إعطاء أي ذريعة لمواجهته في مسقط رأسه، وكل ما يقوم به يندرج بين المواقف التذكيرية لرفع معنويات النظام السوري، وبين محاولة تحسين شروط التسوية لمصلحته من باب تهريب التطبيع، ولكنه في اللحظة التي سيشعر فيها انّ التهريبة ستؤدي إلى كسر الوضع اللبناني سيتراجع.

• رابعاً، يدرك «حزب الله» انّ مستوى الاهتمام الدولي بلبنان قد يكون غير مسبوق، ولن يسمح المجتمع الدولي بإطاحة استقرار لبنان أو إلحاقه مجدداً بالنظام السوري أو بمحور إقليمي معين.

• خامساً، يدرك «حزب الله» انّ الرئيس سعد الحريري يُشكِّل مطلباً دولياً وسعودياً إلى جانب حيثيته المحلية، وطالما انه ليس في وارد التطبيع مع النظام السوري حسب ما أكد بشراسة، فهذا يعني انّ إزاحته ليست فقط غير ممكنة إنما غير مطلوبة.

• سادساً، يدرك «حزب الله» انّ ثلاثي «المستقبل» و»القوات» و»الاشتراكي» يتعامل ببراغماتية عالية معه ومع الوضع الحالي، ولكن في اللحظة التي سيقترب من إسقاط المعادلة القائمة فإنّ البراغماتية ستتحول مبدئية مقفلة على اي نقاش، ومعلوم ان ليس من مصلحة الحزب الصدام مع المسيحيين والسنّة والدروز في هذه اللحظة بالذات.

• سابعاً، يدرك «حزب الله» انّ وضع لبنان الاقتصادي على حافة الهاوية، وانّ إحياء الملفات الخلافية أسهل الطرق إلى الهاوية، والهاوية تعني إمّا الفوضى وإمّا وضع اليد الدولية على لبنان، ولا مصلحة للحزب في هاتين الحالتين.


فلكل ما ورد من أسباب واعتبارات وغيرها، من مصلحة الجميع الابتعاد عن النار لأنّ لهيبها سيحرقهم.